خاطرة من داخل الكنيسة

TT

يوم الجمعة الماضي كنت في زيارة عمل لمقدونيا البلقانية المجاورة لليونان وألبانيا وصربيا وبلغاريا وكوسوفو، مكلفا من مركز الملك عبد الله العالمي لحوار أتباع الديانات والحضارات، وقد ذهبنا في جولة حول الأماكن الأثرية التي تعج بها مقدونيا. ومقدونيا لمن لا يعرفها، كتاب تاريخ مفتوح يمتد لأكثر من ألفي عام، تلاقت وتلاقحت وتصارعت على ثراها حضارات وثقافات وديانات سادت، ثم بادت أو بقي بعض معالمها، الحضارة الرومانية والإغريقية والإسلامية، وسكانها لا يتجاوزون المليونين، ثلثهم مسلمون ألبان، على مساحة تقارب مساحة البحرين.

وقد لفت انتباهي كلام المرشد السياحي عن أكبر كنيسة في المدينة العتيقة «أوخريت»، وهي المدينة الثانية بعد «سكوبيا» العاصمة، وكيف أن الفاتحين العثمانيين حولوا هذه الكنيسة «الرمز» إلى مسجد المدينة الرئيس بعد أن غيروا معالم الكنيسة، وأزالوا صلبانها وتماثيلها، واستمرت مسجدا قرابة أربعمائة عام حتى تضعضع الحكم العثماني أمام جحافل الصرب، فقاموا بتدمير مقر هذه الكنيسة التي تحولت إلى مسجد وأقاموا مكانها كنيسة كبيرة لا يزال كل شبر فيها يعبق بتاريخ مثير من الصراع بين الإسلام والمسيحية.

تحويل هذه الكنيسة إلى مسجد ثم تحويل المسجد إلى كنيسة وما صاحب هذه التحولات من تدمير متبادل، ترك ندوبا في العلاقات بين الجاليتين الإسلامية والمسيحية في مقدونيا إلى يومنا هذا، ونكش موضوعا يستحق النظر والدراسة، وهو ظاهرة تحويل الكنائس إلى مساجد خاصة في الدول الغربية أوروبا والأميركيتين. هل من المصلحة على المدى القريب والبعيد تحويل الكنيسة أو المعبد اليهودي إلى مسجد؟ الجواب البدهي أنه ما دام الإجراء في إطار القوانين المعمول بها في الدول الغربية، وتمت إجراءات البيع بالتراضي، فما الذي يمنع؟ وأين المشكلة؟

وفي تقديري أن قانونية إجراءات تحويل الكنائس أو غيرها من المعابد إلى مساجد، أو العكس، وإن كانت نادرة إن لم تكن معدومة، والتراضي بهذا التحويل، لا يضمن مطلقا ألا تكون ألغاما قابلة للتفجير في المستقبل القريب أو البعيد. إن اللغة الحماسية التي تنتشي بمثل هذه التحولات وتنزع إلى استخدام المفردات المتوترة كنوع من «الانتصار الديني» على ساحة المنافسة، لا تخدم مطلقا أوضاع الأقليات الإسلامية ولا مستقبلها، وهذا هو ما يجب أن يحذر منه، لأن أغلبية الغربيين، وإن كانوا بطبيعتهم في الجملة لا يكترثون حتى بديانتهم، ناهيك عن الديانات الأخرى، لهم تعلق انتمائي طبيعي، رأيناه ماثلا للعيان في الحرب الشرسة بين البوسنيين والصرب، وكلتا الطائفتين لم تكن لها قبل الحرب علاقة حقيقية بديانتها، ومع ذلك فإن الحرب استفزت المارد الكامن، وتحولت إلى حرب صليبية في أعين المسلمين، وحرب مقدسة في أعين الصرب.

هذا التعلق المغروز في الأنفس لا يتحرك إلا بالاستفزاز الذي لا يمكن أن يكبح أحد جماحه، ولا أشك أن تحويل الكنائس إلى مساجد، وإن لامس عواطف جياشة انتشاء بغلبة ديانة على ديانة، سيتحول إلى «ألغام» قابلة للانفجار طال الزمن أو قصر، ولنا عبرة في الصراع المؤسف حول المسجد البابري الهندي ومسجد آيا صوفيا التركي، ومسجد قرطبة الأندلسي، التي بنيت على أنقاض معابد أخرى، والأفضل للجاليات الإسلامية إنشاء مساجدهم ومراكزهم على أراض بيضاء لا تحمل بعدا دينيا، أو تحويل بنايات غير دينية، كالقاعات العامة والبنايات العادية، إلى مساجد. و«باب يجيك منه ريح التعصب العاتية سده واستريح».

[email protected]