بين الأنوار والظلمات

TT

آفة الفكر المغالطة التاريخية. وعدم الاعتراف بالتفاوت التاريخي الهائل بين الفكر الأوروبي والفكر العربي هو أكبر دليل على هذه المغالطة. وهذا يضرنا ولا ينفعنا على عكس ما يظنون. فلماذا نكابر إذن؟ عدم القدرة على التفريق بين المعاصرة الزمنية - والمعاصرة الفكرية الأبيستمولوجية يؤدي إلى تمييع المواقف وضياع البوصلة. إنها لمغالطة كبرى اعتقاد أن الفكر العربي هضم كل الثورات اللاهوتية والعلمية والفلسفية والسياسية التي هضمتها المجتمعات الأوروبية المتقدمة منذ القرن السادس عشر وحتى اليوم. إنها لمغالطة كبرى اعتقاد أننا عشنا معركة الذات التراثية مع ذاتها كما فعلت المسيحية الأوروبية على مدار أربعة قرون. العالم الإسلامي لم يعش بعدُ هذه المعركة الضارية وإن كان قد أصبح على أبوابها. البعض يعتقدون إمكانية تحاشيها أو القفز فوقها، ولكنهم واهمون. لا بد مما ليس منه بد!

أولا: ينبغي القول بأن التنوير هو موقف من الوجود وليس محصورا بحقبة معينة بحد ذاتها. إنه موقف نقدي احتجاجي على الدوغمائيات المتحجرة أيا كانت دينية أم سياسية. ومن ثم، فهو قد يوجد في كل العصور. بهذا المعنى، فأبو العلاء المعري كان تنويريا كبيرا. وقل الأمر ذاته عن الجاحظ والكندي وابن سينا والفارابي وكل أقطاب العصر الذهبي للعرب. ولكن، أجمع المؤرخون على اعتبار القرن الثامن عشر الأوروبي هو عصر التنوير بامتياز. لماذا؟ لأنه حقق لأول مرة في تاريخ البشرية استقلالية الفلسفة عن اللاهوت المسيحي، أو العقل عن النقل. ثم لأنه بلور مشروع التنوير الكبير الذي كان يهدف إلى تحسين الوضع البشري عن طريق تبني العقلانية العلمية والتخلي عن العقلية الخرافية التي سادت العصور الوسطى المسيحية والتي لا تزال تسود شرائح واسعة من عالمنا الإسلامي حتى اللحظة. كان هذا المشروع يهدف إلى تحقيق التقدم التكنولوجي والديمقراطية والحرية الدينية: أي حرية الضمير والمعتقد أو «لا إكراه في الدين»، وذلك لأن الكنيسة الكاثوليكية كانت قسرية وتكفيرية في ذلك الزمان. ينبغي أن ننسى صورتها الحالية المشرقة، حيث أصبح البابا الحالي من أكبر المدافعين عن الحداثة وحقوق الإنسان وحرية المعتقد والضمير. كما هدف مشروع التنوير إلى إخراج الشعب من أميته وجهله وفقره المدقع واستلابه عن طريق رفع مستوى المعيشة وتحسين العلاج الطبي ثم عن طريق التعليم والتثقيف.

كما هدف مشروع الأنوار إلى مكافحة التعصب الديني الذي أشعل الحروب الطائفية على أوسع نطاق، ودمرهم تدميرا كما هو حاصل عندنا حاليا. أتمنى لو كان عندي الوقت الكافي لتأليف كتاب كامل عن الحروب المذهبية الكاثوليكية - البروتستانتية التي اندلعت في كل أنحاء أوروبا قبل أن يستنيروا ويتمدنوا ويتحضروا. لم يقل فلاسفة الأنوار عندئذ «بأن شعبنا لا مثيل له، وأن الطائفية مستوردة من الخارج، وأننا لا يمكن أن نكون طائفيين معاذ الله، وكل هذا الكلام الفارغ». لم يلهوا أنفسهم بهذا الكلام الديماغوجي المستهلك الرخيص.. لا، أبدا. لقد اعترفوا بحقيقة المشكلة التي تنخر في أعماق شعوبهم بسبب هيمنة العصور الوسطى الظلامية على عقليتها. ولهذا السبب، فإن فلاسفة الأنوار ركزوا كل جهودهم على بلورة تفسير آخر للدين: أي تفسير عقلاني، إنساني، مستنير.

ينبغي العلم بأن الآباء المؤسسين لمشروع التنوير ولدوا في القرن السابع عشر من أمثال ديكارت وجون لوك وسبينوزا، ولكن الذين نفذوه وطبقوه كمشروع جماعي صاعد هم فلاسفة القرن الثامن عشر. ولم يكن هدف المشروع فكريا أو نظريا فقط، وإنما عمليا أيضا. فعلى المستوى المادي، هدف المشروع إلى مواجهة الكوارث الطبيعية التي كانت ترعب الناس في ذلك الزمان كالأعاصير والفيضانات والأوبئة والجفاف، ناهيك بالزلازل والبراكين.. ولذلك، عملوا كل ما بوسعهم لكي يتمكن الإنسان من تدجين الطبيعة. من هنا عبارة ديكارت الشهيرة حول الطبيعة وضرورة مقاومة الكوارث، عن طريق العلم والصناعة والتكنولوجيا. هذه هي باختصار شديد الخطوط العريضة لمشروع التنوير. ومن ثم، فقد كان عبارة عن تيار فكري ضخم وجبار استطاع تشكيل كل الحضارة الحديثة التي نراها بأم أعيننا اليوم. كما استطاع أن يركع الأصولية المسيحية تركيعا وأن يهزمها على أرضيتها الخاصة بالذات. لقد أثبت أن مفهومها للدين منغلق ومتعصب وطائفي ومسبب للحروب الأهلية والمجازر الطائفية. ومن ثم، فقد آن الأوان لتجاوزه أو إيقافه عند حده. من هنا، جاءت عظمة فلاسفة الأنوار. لقد خاطروا بأنفسهم وتحملوا مسؤوليتهم. كلهم كانوا مشردين، ملاحقين، ومهددين، على حد السكين!

لقد ظلت الكاثوليكية البابوية تكفر لعصور طويلة، ليس فقط الأديان الأخرى كالإسلام واليهودية والبوذية، وإنما أيضا المذاهب المسيحية الأخرى كالبروتستانتية مثلا. كما ظلت تحارب الأفكار المتنورة الجديدة وتنعتها بالهرطقة والزندقة والخروج على الدين والتعارض التام مع الإيمان المسيحي. كل المؤلفات الإبداعية الكبرى وضعت على لائحة الكتب المحرمة من قبل الفاتيكان: من ديكارت إلى كانط إلى فلوبير وبودلير وعشرات غيرهم. كلهم كُفِّروا وأدينوا باعتبارهم منحرفين عن العقيدة القويمة المستقيمة أو ما يدعى في اللغات الأجنبية: بالأرثوذكسية. ولكن الكنيسة الكاثوليكية استسلمت في نهاية المطاف لمنطق التطور وقامت بثورة لاهوتية على ذاتها وتصالحت مع الحداثة في منتصف القرن الماضي أو بعده بقليل إبان الفاتيكان الثاني. ويرى العلماء المطلعون أن كل الاختلاجات الهائجة التي يشهدها العالم الإسلامي حاليا، ما هي إلا صورة طبق الأصل تقريبا عما حصل في المسيحية الكاثوليكية أثناء القرنين الماضيين. ومن ثم، فنحن سائرون على درب التطور حتى ولو كان المشهد الظاهري يوحي بالعكس. إن وراء الأكمة ما وراءها.. العرب لم يقولوا كلمتهم الأخيرة بعد. والمسلمون قادمون، ولكن بعد أن يخوضوا معركتهم الذاتية مع أنفسهم حتى العظم!