صراع لوردات لحرب في لبنان

TT

من المبكر بعد الاستنتاج بأن ديمقراطية لبنان «التوافقية» أعجز من أن توصل مرشحا توافقيا إلى سدة الرئاسة الأولى في قصر بعبدا. ولكن، إذا كان ثمة عبرة يمكن استخلاصها من جلسة البرلمان اللبناني الأربعاء الماضي، فقد لا تكون في فشل أي مرشح في نيل ثقة ثلثي نواب الأمة في أهليته لتبوؤ منصب الرئاسة الأولى، بقدر ما هي في إظهارها أن نواب لبنان ما زالوا يواصلون حربهم الأهلية.. ولكن بأسلحة سياسية.

جلسة الانتخاب الرئاسي أوحت، رغم تبدل بعض التحالفات، أنها كانت امتدادا سياسيا لحرب لبنان الأهلية (1975 - 1990). حتى التبدل الظرفي لبعض التحالفات لم يحل دون شق عدد من النواب عصا الطاعة لقرارات زعماء كتلهم النيابية بتأثير ذكريات الحرب ومآسيها.

إذن، قبل انتخاب رئيسهم المقبل، ورغم انقضاء نحو ربع قرن على وضع أوزارها، يحتاج اللبنانيون إلى «إزالة آثار» حربهم الأهلية على صياغة مواقفهم السياسية. وقد كان واضحا في جلسة الانتخاب - المحبطة - أن العديد من نواب لبنان لم يقطعوا «حبل السرة» مع الحرب، بدليل أن أبرز مرشحين للرئاسة جاءا من جبهاتها وكانا من أبرز قادتها العسكريين.. ما يجعل معركتهما «لاحتلال» قصر الرئاسة في بعبدا تبدو كأنها محاولة للحاق بنصر فاتهم تحقيقه ميدانيا، وأحبطه، سياسيا، شعار «اللاغالب ولا مغلوب» المطروح تقليديا في ختام كل أزمات لبنان الأمنية.

بأي منطق سياسي واقعي كان يفترض بنواب البرلمان اللبناني أن يستشفوا آفاق المستقبل وتحدياته، وفي مقدمتها التحديات الاقتصادية والمعيشية الملحة، وأن يطرحوا شعار «لا لأمراء الحرب الأهلية في بعبدا» ويمهدوا، بالتالي، الطريق لانتخاب رئيس قادر على التعامل مع أزمة لبنان الاقتصادية الضاغطة على الجميع، عوضا عن أن يفتحوا صفحات الماضي الأليم ويبرروا تفضيل خمسة نواب «الاقتراع» لضحايا الحرب الأهلية على الاقتراع لأي مرشح «حيّ».

لا يختلف لبنانيان على أن المرحلة التي يعيشها وطنهم تستوجب انتخاب مرشح «قوي» برؤيتيه الاقتصادية والمالية لمستقبل لبنان، وليس بماضيه «البطولي» في حرب أهلية عبثية لم تُبقِ ولم تذر.

ولكن ما هكذا تمارس السياسة في لبنان، خصوصا اليوم بعد أن ارتهنت التوازنات السياسية داخل الطائفة المارونية (طائفة الرئيس اللبناني) بالتوازنات الإقليمية، لتصبح أسيرة تحولاتها، الأمر الذي يجعل شعار انتخاب رئيس «صنع في لبنان» وهمٌ لا ينكره أكثر اللبنانيين غلوّا في «وطنيته».

إلا أن ذلك يجب ألا يحول دون اتفاق النواب الضنينين «بالمصلحة الوطنية» على اسم مرشح - أو أكثر - تتطلبه أوضاع لبنان الاقتصادية المتردية واحتياجاته الأمنية الراهنة.

أما شعار رئيس «صنع في لبنان» فسوف يبقى طرحا طوبيا ما بقيت الهيئة الناخبة للرئيس اللبناني محصورة في 128 نائبا (مبدئيا) وفي خمسة أو ستة رؤساء كتل نيابية.

(عمليا). ولا حاجة إلى التذكير بأن «بروفة» إفقاد جلسة الانتخاب الثانية نصابها، الأربعاء الماضي، دليل واضح على «هيمنة» رؤساء الكتل على قرار ممثلي «الشعب اللبناني».

قد يكون من رابع المستحيلات مطالبة النواب اللبنانيين «بالتنازل» عن حقهم الانتخابي لصالح الشعب اللبناني بأكمله بعد أن أثبتت تجارب سنوات الاستقلال أن الانتخابات الرئاسية تحولت إلى «موسم» سياسي بامتياز يعز على العديد منهم تفويته - كي لا نقول استغلاله - رغم أن الانتخاب الشعبي المباشر لرئيس الجمهورية لا يعزز مصداقية النظام الانتخابي في لبنان فحسب؛ بل يضفي على الرئيس المنتخب صفة تمثيلية ووطنية واسعة لا تتيحها له قاعدته الطائفية مهما كبرت.

من الطبيعي ألا يرحب العديد من السياسيين اللبنانيين باقتراح الانتخاب الشعبي المباشر لرئيس الجمهورية، فمن شأن أي تعديل دستوري بهذا الاتجاه أن يحرم النواب من أبرز صلاحية يتمتعون بها (نيابة عن الشعب اللبناني)، ويحرم مرشحي الرئاسة من متعة وضع مواصفات «الرئيس القوي» على مقاسهم الشخصي، دون كبير اعتبار لموقف الشارع اللبناني منهم.