صدفة متسلسلة

TT

أمضى الزميل سمير صنبر نحو أربعة عقود في الدائرة الإعلامية لدى الأمم المتحدة، منها نحو عقدين أمينا عاما مساعدا. ظل طوال هذه السنوات على مقربة من المقر العام في نيويورك، فيما عدا مهمتين في الخارج. الأولى، سفيرا للمنظمة في بيروت، والثانية، رئيس بعثة هيئة الأمم، التي أشرفت على استقلال إريتريا، حيث ترك لدى أهلها ذكرا لا يُنسى.

غير أن الإقامة شبه الدائمة في نيويورك كان يتخللها أيضا سفر دائم لحضور المؤتمرات الدولية في الخارج. ذات مرة، كان مسافرا إلى مدريد. حزم حقيبته ونزل إلى الجادة الثانية يبحث عن سيارة تاكسي في يوم بطيء. بعد قليل، لاحظ أن رجلا يقف قبالته من الجهة الأخرى، إلى جانبه حقيبته، ويرفع يده إشارة إلى سيارة تاكسي بالتوقف. لفترة غير قصيرة لم تمر سيارة هنا أو هناك. فلما وقعت عينا سمير على الرجل أشاح بوجهه سريعا. تنبه سمير إلى أنه يضع نظارة سوداء مثل المخبرين في الأفلام. ثم لاحظ شيئا آخر؛ الرجل الغامض هذا «ذو ملامح شرق أوسطية» لا تخطئ. عندما توقفت أخيرا سيارة تاكسي لسمير في هذا الجانب، توقفت أخرى للرجل السري في اللحظة نفسها.

وصل الموظف الدولي إلى مطار جون كيندي، وترجل يطلب حقيبته، فإذا الرجل السري خلفه يترجل ويطلب حقيبته. اتجه نحو مكاتب شركة الطيران الإسبانية، فرأى الرجل السري خلفه. أجرى معاملاته، ولم يعد يرى صاحب الملاح الشرق أوسطية، فقال في نفسه: مجرد مصادفات لا قاعدة لها. لكن المصادفة تمادت في التطابق؛ عندما وصل سمير إلى مقعده وجد الرجل السري قد سبقه وجلس إلى المقعد بجانبه. وبمزيج من الأدب والضيق، قال للرجل السري قبل أن يجلس: أنا فلان من الأمم المتحدة، هلا شرفتني بمعرفتك؟! وحاول الجار الوقوف بأدب، وقال: تشرفت بمعرفتك. أنا غابرييل غارسيا ماركيز.

انفجر صنبر بالضحك، وقال له: منذ لحظة التاكسي في الجادة الثانية وأنا أعتقد أنك شرطي سري بملامح شرق أوسطية! ونسي سمير الأمانة العامة ليعود صحافيا، ويصغي طوال الرحلة إلى حكايات أشهر حكواتي في القرن الماضي. عندما وصلت الرحلة إلى مدريد تودع الصديقان الجديدان، وركب كل منهما سيارة أجرة. ولدى وصول سمير إلى فندقه التفت، فإذا غابرييل غارسيا ماركيز يترجل من السيارة التي خلفه. وضحك الاثنان من مصادفة لا فكاك منها.

كانت قواعد الوظيفة تمنع على سمير صنبر كتابة القصة يومها، فتولَّيت يومها روايتها في هذه الزاوية، ولكن بتفاصيل أقل. استذكرنا معا تلك الحكاية في نيويورك، فيما صحف العالم تودع ماركيز، كل بحكاية من عندها. هذه هي الحكاية الوحيدة التي يظهر فيها بملامح شرق أوسطية.