موقف الدين من الكارثة الطبيعية والبشرية

TT

ذات يوم كان الممثل أورسون ويلز يلهب العالم. فقد انطلق من إذاعة محلية في نيويورك، موحيا بأن الحرب العالمية قد بدأت. اتسعت دائرة المستمعين المأخوذين ببراعة الممثل في الإيحاء بالكارثة. وعاشت نيويورك ساعات استشعار رهيبة بالموت المحتم.

ممثل آخر لا يقل براعة عن أورسون ويلز في إثارة جو الكارثة. يلتقط باراك أوباما السيف الدونكيشوتي الذي تركه الراحلان صاموئيل هنتينغتون وبرنارد لويس. فقد أشعلا «حرب الحضارات والثقافات» من دون أن يلقيا حتفهما فيها.

يصيح أوباما من البيت الأبيض على مدار الساعة بأن الحرب على الإرهاب قد قامت. وكأن ابن لادن الذي دفنه في بحر العرب عاد، ليكمن بزناره الناسف للمؤمنين والكفار في منعطف كل شارع. ووراء جدار كل مبنى.

نعم لا نستطيع أن نختبئ وراء أصابعنا. هناك إرهاب حقيقة وفعلا. الإسلام «الجهادي» ورث الإخوان السياسي والإخواني، ممتدا من باكستان وأفغانستان إلى أفريقيا الغربية. ومن العراق وسوريا إلى اليمن والصومال ونيجيريا. وتبين أن الرئيس المصري المخلوع محمد مرسي أطلق سراح الجهاديين خلال إقامته القصيرة في قصر الرئاسة.

وفي كل قرية على ضفاف النيجر هناك فقيه يفسر فقه العنف الديني إلى الفلاحين الفقراء والبسطاء. وفي نيجيريا خطف جهاديو «بوكو حرام» طالبات المدارس ربما لتأمين زوجة بالحلال لكل جهادي. الأمن الفردي مشكلة اجتماعية كبيرة تهدد سلامة الإنسان المدني.

الجريمة المنظمة والعشوائية تشغل بال الدولة والمجتمع. لم أسمع أن شيخا وكاهنا ناشد السائقين المؤمنين تخفيف السرعة. ربما لكي لا يستفيد السائقون الملحدون من بركة النصيحة.

الطرافة المحزنة تكمن في أن الدولة تشكو من موت مواطنيها بالسيارات المسرعة. ثم، بتشجيع من شركات السيارات تنظم وتسمح بإقامة سباق السيارات (السبور) والدراجات النارية، وتترك محطات التلفزيون لتتنافس في نقل ثقافة السرعة، إلى مليارات الركاب في العالم.

الكارثة الطبيعية والتقنية تحصد أرواح الكفار والمؤمنين على حد سواء. مات مئات الألوف من سكان سواحل الشرق الأقصى، في هجمة تسونامي البحرية الناجمة عن اضطراب في عمق القشرة الأرضية تحت البحار والمحيطات. لم تتحسن كثيرا تقنية الرصد للكوارث الطبيعية (الزلازل. الأعاصير. البراكين). لعل الدولة باتت تعتمد على الـ«الفياغرا» في سد الفراغ السكاني الذي أحدثه ضحايا الكارثة الطبيعية.

نحن نعيش في عصر السياحة. لم يعد الأوروبي يفضل الذهاب إلى العالم العربي جنديا. يفضل أن يزوره سائحا. قتل أربعة آلاف جندي أميركي. وجرح عشرات ألوف العسكريين. في غزو العراق. أنفق الرئيس جورج بوش ألف مليار دولار (تريليون دولار). ولم يعرف أن «الحروب الصليبية» التي يبشر بها انتهت منذ قرون بعيدة. مع ذلك يتكهن نائبه السابق ديك تشيني بأن الغرب سيضطر في النهاية إلى غزو العالم الإسلامي كحل للإرهاب. وللقضاء على ثقافة العنف الديني. وقد قام أخيرا بزيارة «تفقدية» لمسرح «العمليات» في العالم العربي. بالطبع أوباما عقائديا ضد تشيني. وهو يرى أن طائرة «درون» توفر حياة جنود أميركا. بالغارات الجوية على بؤر العنف الديني في العالمين العربي والإسلامي!

ما هو موقف الدين من الكارثة الطبيعية والبشرية؟

مع تطور الميثولوجيا الدينية ولد الإيمان بالخلود والانبعاث بعد الموت. بات الإنسان يعتبر الدين أمرا حتميا ملازما للحياة. ظهر الأنبياء كوسطاء للحل والعقد بين الله والإنسان. في القرآن الكريم كان التحذير الإلهي للإنسان «الضال» شديدا: لا رجعة عن الإيمان. والنهي عن المنكر. وعن عبادة الآلهة الوثنية المتعددة. ثم كانت التوعية النبوية مصحوبة بالإشارة إلى العقاب الإلهي، ليس في الآخرة عند الحساب النهائي، إنما أيضا في الحياة الدنيا. فالله يمهل ولا يهمل. وأشار القرآن إلى شواهد ماثلة على العقاب لقوم عاد وثمود وغيرهم.

وهكذا ولد لدى «أهل الكتاب» التسليم الإيماني بعدم الاعتراض على الكارثة الطبيعية. فهي بمثابة انتقام إلهي من الضالين. ومن شيوع الفساد في المجتمع. إنها مشيئة الله جلت حكمته ورشده. وشاع القول الإيماني لدى العامة بأن الله جلت قدرته، لو أراد لحال دون الكارثة الطبيعية التي تنزل بعباده المؤمنين والضالين والملحدين.

هذا التسليم الديني والإيماني بقبول الكارثة الطبيعية يعزي النفس الإنسانية المفجوعة، ويقابله اعتراض شديد لدى المؤمنين والملحدين على ما أسميه بـ«الكارثة التقنية» الناجمة عن خطأ بشري أو آلي، كالعطل الفني في الآلة، أو المحرك الذي يتسبب مثلا، بسقوط الطائرات، وغرق السفن، وكوارث القطارات، وانهيار المباني.

هنا الفجيعة الإنسانية كبيرة بالغياب المفاجئ للأهل، للأصحاب، وللأحباب. هنا المؤمنون و«الكفار» يطالبون بمحاسبة ومحاكمة المسؤول الفني عن التقصير في الصيانة. وعن الإهمال الحكومي في الرقابة. وهنا أيضا التعبير المتأخر عن الندم لإشعال الساسة والعسكر للحروب التي أودت بحياة ملايين الناس. ويشتد التعاطف الإنساني والإحساس الجماعي بالفجيعة، عندما ينقل الإعلام الحديث مشاهد الحزن والدمار إلى أطراف القرية العالمية التي نتعايش ونتساكن معها.

في غرق العبارتين الكورية والإيطالية، أودع الربان «الكابتن» السجن لمغادرته السفينة الغارقة قبل استكمال إنقاذ الركاب، ولا تزال الحكومة الماليزية تواجه السؤال عن المصير المجهول لطائرة الركاب المفقودة في مجاهل البحار والمحيطات. أعني أن ملاحقة شركات الصناعة والصيانة والشركات المالكة، غالبا ما تكون بطيئة وأحيانا متواطئة. فقد تمكن مالك العبارة المصرية التي غرقت بألف حاج مصري من الفرار.

هناك 2.5 مليار راكب للطائرات سنويا. تحسن مستوى سلامة الطيران المدني. مع ذلك ما زالت كوارث الطيران تودي بحياة 1500 راكب وملاح سنويا بسبب كوارث تقنية، تعود إلى أخطاء بشرية أو إهمال في الصيانة، وقيادة الطائرة.

يموت عشرات ألوف الإيرانيين والصينيين بالزلازل الطبيعية المروعة. مات 68 ألف صيني في زلزال 2008، مات أكثر منهم في زلزال هاييتي وتشيلي، كان جواب المسؤولين الدينيين الإيرانيين بأن لا راد لمشيئة الله، في حين كان بالإمكان بناء قرى ومنازل صامدة، لو أن مال النفط (مائة مليار دولار سنويا) أنفق على صيانة حياة المؤمنين، بدلا من إنفاقه على مغامرة غزو سوريا، لإنقاذ نظام مدمر للحياة وللعمران، ولإرضاء الطموح الشيعي الإيراني إلى الهيمنة على الحياة العربية خارج إيران.

الإسلام «الجهادي» يفسر حربه المخزية على الحياة الإنسانية بأنها بمثابة انتقام ديني وإلهي من «الأبرياء» لأنهم ينتخبون أنظمة «كافرة» معادية للإسلام. هذا التبسيط الساذج لكن المتزمت لتفسير «مشروعية» العنف الديني، يتجاهل مسؤولية الدين أيضا، عن محاربة الفقر والفساد في العالم.

المأساة في تفسير الإسلام «الجهادي» للعنف الداخلي تتمثل في أن النص الديني القداسي قابل للتفسير والتأويل لخدمة مبدأ العنف، أو مبدأ التسامح. والعلة أن طائرة «درون» عمياء، فهي تقتل الشاب «الجهادي» المغرر به ولا تصل إلى الفقراء والمشايخ «الجهاديين» في مخابئهم حيث يحولون المؤمنين إلى مدمنين للعنف ضد النفس وضد هذا العالم.