هدنة للانتفاضة.. فرصة للمفاوضات

TT

لتكن المرة الاخيرة التي نصدق فيها ما وصف بتسريبات بعض المسؤولين الامريكيين من ان البيت الابيض قد اغتاظ من الطريقة الشارونية في اعطاء الانطباع القاطع وكأنه أخذ بالفعل الضوء الاخضر من لقائه بالرئيس بوش لشن حربه الواسعة الاخيرة على السلطة الفلسطينية وشعبها حال عودته من واشنطون، وان البيت الابيض فهم تماما الاسلوب «التكتيكي» الذي استخدمه شارون، الا انه لم يكن بالوسع الرد عليه حتى لا يبدو وكأنه يكيل بمعيارين ازاء «الارهاب» الذي يعتبر الهاجس الذي يسيطر تماما على كل امريكا. وعطفا على ذلك، دعونا نستنتج ايضا ان بقاء الجنرال انتوني زيني في المنطقة واستئنافه لمهمته يرجح هذا الاعتقاد، لكننا للاسف لم نلمس منه حتى كتابة هذه السطور ضغوطا متوازية على الجانبين، بل ان اسرائيل تواصل قصفها الهمجي على مراكز السلطة الامنية حتى الآن بينما هو يطالب بالمزيد من الاعتقالات! ويحمل لائحة فيها 16 مطلبا اسرائيليا، ولم يطلب من اسرائيل التوقف عن القصف على الاقل لتمارس السلطة مهمتها في متابعة مسلسل الاعتقالات التي شملت حتى الآن وضع الشيخ احمد ياسين تحت الاقامة الجبرية، بينما ابلغ عرفات، زيني ان ثلث قائمته التي حملها اليه هي قيد الاعتقال! واذا لم يتحرك زيني باتجاه ممارسة ضغوط على شارون للكف عن القصف وسياسة الاغتيالات وفك الحصار واخلاء المناطق التي توغلت فيها القوات الاسرائيلية فان مصداقية الولايات المتحدة ستصل الى درجة الصفر عند اكثر العرب اعتدالا واملا في ان تفعل ولو اقل القليل ازاء حقوق الفلسطينيين، وساعتها لن تنفع مثل تلك التسريبات في خداع احد وستكون الكلمة العليا لمن لم يثقوا اصلا في مصداقية امريكا، ومن راهنوا على ان لا خيار الا القتال. لذلك المطلوب وبالحاح ان تتلازم الخطوات هنا وهناك، بحيث يفضي اي انفراج يلمسه الفلسطينيون الى تعزيز موقف السلطة ويؤدي الى الانصياع للهدوء المطلوب، حيث تعطى المفاوضات فرصة لتحقيق السلام المنشود.

وما لم يقم زيني بهذا التلازم في الخطوات، وواصل الضغوط على الطرف الفلسطيني وحده فإن النتيجة التي يمكن قراءتها هي ان الولايات المتحدة تقف مع الخط الشاروني الى نهاية الشوط بهدف القضاء على السلطة الفلسطينية من جهة، واشعال حرب اهلية بين الفلسطينيين من جهة اخرى، علما بان شارون لم يخف عزمه على اغتيال عرفات وقد شهد بذلك وزير خارجيته بيرس نفسه، كما ان كبح جماح المقاومة المسلحة الذي تطالب به امريكا ما لم تصاحبه انفراجات على ارض الواقع الفلسطيني، حتما سيؤدي الى حرب اهلية، وحتى الآن لا نميل الى ترجيح ان الولايات المتحدة ترغب في هذا او ذاك، ولكن الشك لا يزول الا بخطوات جادة ومثمرة على الارض.

ان وقف الانتفاضة او اعطاء هدنة ليس بوسع عرفات او غيره ان يطلبه او ينجح في تحقيقه الا اذا حصل على نتائج ملموسة على الارض، اذ من المستحيل ان تستجيب الجماهير الى الاستكانة او الهدوء وهي تعيش في حصار قاتل وغيره من مسالك التضييق الاسرائيلية، وبالتالي فان وقف الانتفاضة او حتى الحصول على هدنة يحتاج الى اجراءات مشتركة من الطرفين وتلك كما يبدو من اولويات دور الجنرال زيني، وحتى الآن ابدت السلطة من المواقف ما يشير الى صدق عزمها في اعطاء المفاوضات فرصة بعكس شارون الذي كل ما يصدر عن حكومته يعقد الامور ويصب باتجاه التصعيد، وامريكا هي الجهة الوحيدة القادرة على جلبه الى المفاوضات وتقديم التنازلات.

بالطبع هناك من يقول ان شارون يستحيل ان يحقق السلام ويقبل بتفكيك المستوطنات وبالتالي ليس من رجاء في ذلك الا بعد رحيله او ترحيله عن السلطة، لكن الرئيس الفلسطيني يذكرنا بان شارون وليس غيره هو الذي فكك مدينة ياميت في سيناء على عهد بيغن وهي مدينة وليست مستوطنة، كما يذكر ان السلام المصري ـ الاسرائيلي تحقق في عهد بيغن الذي كان من غلاة زعماء التطرف الاسرائيلي الذين تتلمذ شارون على ايديهم. وفي الوقت الذي يصدر فيه مثل هذا الحديث عن عرفات يعمل شارون على تصفيته بزعم ان عرفات لا يعتبر شريكا في التفاوض من اجل السلام مما يرجح حجج من يقولون ان شارون يريد تصفيته لانه ـ اي شارون ـ لا يريد مفاوضا من اجل السلام، بل يريد متطرفين يقاتلهم حتى يحافظ على حكومته اليمينية ويقضي على اي فرص للسلام!!.. أو لم يذهب الى امريكا متوجسا من ضغوط تمارس عليه، فاذا بانتحاريي حماس لا يرفعون حرجه وتوجسه فحسب وانما يردونه متدثرا بحق الدفاع عن النفس.. فيتجاوزنه الى ما كاد يقضي على السلطة الفلسطينية ناهيك من البنية التحتية للفلسطينيين، ولعله لا يزال يطمع كما تقول بعض الصحف الاسرائيلية في ان تحل حماس مكان عرفات في قيادة الشعب الفلسطيني حتى يمكن القضاء على آمال الفلسطينيين بغطاء تعاطف دولي. وتهلل صحيفة «هآرتس» في عدد 6/12تحت عنوان: خط رامسفيلد انتصر.. وواشنطون تدعم حملة شارون.. وتقول: حسب التقارير الواردة الى القدس، فقد قام اصحاب الخط المتشدد برئاسة وزير الدفاع الامريكي دونالد رامسفيلد باعادة باول وموظفي الخارجية الامريكية الى مكانة المراقب الخارجي الضعيف. رامسفيلد وطاقمه يحتفلون بنصرهم. موجة العمليات شكلت في نظرهم برهانا ساحقا بانه كان على بوش ان يصغي لهم ويأمر باول بسحب خطابه. حتى في اوساط الخارجية الامريكية يعترفون ان عرفات حول باول الى احمق في نظر بوش ولو كان الامر بيد رامسفيلد لما كان بوش قد لفظ عبارة الدولة الفلسطينية..! وللاسف ان وزير الدفاع الامريكي يحاول باستمرار استقطاب كراهية العرب للسياسة الامريكية بوقوفه مع شارون في خندق واحد الى درجة انه وصف الاعتقالات التي تقوم بها السلطة الفلسطينية بانها سجون لها ابواب من حديد ولكن ليس فيها من الخلف جدار! وهو من طراز القيادات الامريكية التي وصفها ذات مرة شلومو بن عامي وزير خارجية اسرائيل السابق بانها تعرقل السلام مع الفلسطينيين بانحيازها الكامل الى اسرائيل، وبالمناسبة بن عامي الآن من الذين يدعون الى فرض حل سلمي من الخارج على اسرائيل وعلى الفلسطينيين وهذا ما يبطل الحجج التي يسوقها بعض المسؤولين الامريكيين من ان الولايات المتحدة ليس بوسعها مجرد امكانية الضغط على اسرائيل! وحتى هؤلاء قد فاقهم للاسف رامسفيلد بالانحياز المعلن بوقاحة بجانب اسرائيل بالرغم من انه يشغل المنصب الذي يتطلب دعم التحالف الدولي.

المهم دعونا نأمل خيرا في مهمة الجنرال زيني مبعوث وزير الخارجية كولن باول الذي اخذ غلاة المنحازين للتطرف الاسرائيلي لا يخفون شماتتهم فيه لمجرد اعتداله في الانحياز لاسرائيل ويريدونه ان يكون مثل رامسفيلد. ان الجنرالين يتمتعان بسمعة عالمية طيبة وقدرات هائلة في الاستراتيجية والتخطيط وفي رعاية المصالح الامريكية اولا وقبل كل شيء، لهذا نريد ان نسمع ونرى من زيني ما يزين وجه امريكا وما يمكنه من اختراق نفق شارون، إما بكشف موقفه وتعريته امام الشعب الامريكي وادارته، او بتحقيق انجاز كبير يرفع القهر والظلم عن الفلسطينيين ويحقق السلام للاسرائيليين، وساعتها يكون قد دخل التاريخ من اوسع ابوابه ورد للخارجية الامريكية مكانتها المغيبة وسط ركام صقور رامسفيلد.

والاهم من ذلك كله ان تحافظ مختلف الفصائل الفلسطينية على وحدة الصف ولا تسمح باي حال من الاحوال لشرخه ناهيك من تحقيق امنية شارون في ان يتحول القتال بين الفلسطينيين انفسهم. فرغم الجراحات الغائرة سمعنا من مختلف الفصائل ما يؤكد الحرص على المحافظة على وحدة الصف وعلى عدم السماح باي تقاتل بين هذا الفصيل او ذاك.

فالشعب الفلسطيني بحسه الوطني العالي وخبرته النضالية العظيمة حتما سيفوت الفرصة على كل طامع في انفراط عقد وحدته الوطنية. وسيضع العالم كله على المحك ليلعب دوره بمسؤولية من اجل استعادة حقوقه السليبة.