على رباني كشف ملابسات مجزرة «جانجي» والاقتصاص من مرتكبيها قبل أن تأتي المبادئ من المنظمات الإنسانية

TT

لم يكن منتظراً أن يعامل أسرى الحرب من قوات حركة طالبان وبالذات غير الأفغان بتلك الوحشية التي ذكرتنا بما يفعله شارون في فلسطين المحتلة وما فعله سلوبودان ميلوسوفيتش في البلقان. لقد أدى القصف الجوي الأميركي المكثف الى انسحاب مقاتلي طالبان بشكل فوضوي من شمال افغانستان مع بقاء بعضهم ممن تقطعت بهم السبل، وكان بين هؤلاء نحو 600 مقاتل أسروا بمدينة قندوز واقتيدوا الى قلعة «جانجي» التاريخية. لقد كان مفترضاً ان يعامل هؤلاء كأسرى حرب وفق اتفاقية جنيف الخاصة بأسرى الحرب عام 1949 باعتبارهم كذلك، الا ان ما حدث على أرض الواقع هو تصفيتهم، باستثناء عدد قليل منهم، وقد سبق تصفيتهم كلهم وتعذيبهم وتحقيرهم والتمثيل بهم! ومما زاد الأمر اسى وحسرة في هذه العملية البشعة استخدام الطائرات الامريكية «أي سي 130» في قصف مستمر دون رحمة أو شفقة. الحجة التي ساقها التحالف لتنفيذ هذه العملية جاءت على لسان المتحدث باسم التحالف من أنهم اضطروا الى قتل الاسرى بعد استيلائهم على الأسلحة ومهاجمة الحراس داخل القلعة.

* النية كانت مبيتة

* ما قيل على لسان هابيل من عناد الاسرى وتمردهم لا يمثل الحقيقة كاملة، والواقع يؤكد ان النية كانت مبيتة لدى اطراف التحالف (بجزءيه الدولي والافغاني) بعدم اعتبار من يقع من الافغان الاجانب في الاسر كاسرى حرب وعدم اضفاء هذا الوصف القانوني عليهم، بل معاملتهم كارهابيين جاءوا لنصرة طالبان ضد المجاهدين الحقيقيين (!!)، ويجب ان يحاكموا على هذا الاساس، ومن لم يمتثل منهم فالسحل والتمثيل والقتل هو المصير المحتوم. لقد بدا ذلك جلياً من خلال تصريح وزير الدفاع الأمريكي قبل عملية الأسر عندما صرح بأن القوات الأمريكية في افغانستان لا تحبذ ان يقع بحوزتها اسرى. فهم يمثلون عبئاً على هذه القوات في ظل عدم وجود العدد الكافي من القوات الأمريكية للإشراف عليهم.

بعد استسلام المقاتلين وحجزهم في قلعة «جانجي» حاولت القوات الأمريكية نقل العرب منهم الى الجزر الأمريكية في المحيط الهادي لمحاكمتهم كإرهابيين، فدخلت عناصر من المخابرات الامريكية مدعومة بعدد من افراد الكوماندوز الامريكيين والبريطانيين وبدأوا فرز العرب الى باحة السجن وربط ايديهم خلف ظهورهم استعدادا لنقلهم خارج القلعة بشاحنات معدة سلفاً. لكن اعمال التعذيب والسحل والتقتيل التي تعرض لها هؤلاء من قوات التحالف جعلتهم يصلون الى قناعة بأن الموت أفضل، فبدأوا المقاومة مما أدى الى اطلاق النار عليهم بصورة عشوائية من قبل الكوماندوز الامريكيين والبريطانيين والحراس الافغان، ثم استعين لاحقا بالطائرات ليقتل معظم الاسرى ويحاصر عدد قليل منهم في مخابئ داخل القلعة.

الولايات المتحدة وبريطانيا تعلمان انه لا يمكن تبرير فعلتهما، وأن ما اقدمت عليه قواتهما مخالف لكافة الاعراف والقوانين، لذلك حاولت امريكا التنصل من مسؤوليتها عما حدث والصاق التهمة بقوات تحالف الشمال الأفغاني، حيث اعتبر عدد من مسؤولي الـ«بنتاجون» والمخابرات الامريكية أن الولايات المتحدة لا تتعامل مع الاسرى الا في ما يتعلق بجمع معلومات وأن ما آل اليه مصير الاسرى مسؤولية قادة قوات التحالف الشمالي إلا من القوا القبض عليهم، وان من المبالغة الجزم بقدرة القوات الامريكية على املاء الاوامر على أولئك القادة بشأن مصير الأسرى (!!).

ان ما قامت به قوات التحالف الدولي والتحالف الافغاني الشمالي في قلعة «جانجي» لهو جريمة حرب حقيقية ولا يمكن القبول بأية ذريعة أو مسوغ لاسباغ المشروعية على تلك المجزرة البشعة. فعندما اختارت الولايات المتحدة شن الحرب على افغانستان بدعوى الارهاب كان يجب عليها ان تتعامل وفقاً لقوانين الحرب الدولية وابسط هذه القوانين ان تعتبر من يسقط في الأسر من القوات المعادية اسرى حرب يخضعون لاحكام اتفاقية جنيف المبرمة في 12 اغسطس 1949 والخاصة بمعاملة الأسرى.

هذه الاتفاقية تلزم الدولة الآسرة ان تعامل الاسرى معاملة انسانية بغض النظر عن العرق أو اللون أو الدين أو الجنس.. فيجب عدم قتلهم أو تعذيبهم بدنياً أو معنوياً أو بتر اعضائهم أو اخذهم رهائن أو الاعتداء على شرفهم وكرامتهم الشخصية او تحقيرهم ولا الأخذ بالثأر ضدهم ولا اصدار الأحكام وتنفيذ العقوبات بحقهم دون محاكمة عادلة، تتوافر لها كافة الضمانات القضائية. كما تفرض الاتفاقية الاعتناء بالاسرى وتزويدهم بالطعام الكافي والمياه الصالحة للشرب والملابس والعناية الطبية اللازمة وحجزهم في مواقع بعيدة عن خطر الحرب والغارات الجوية وجمع الجرحى والاعتناء بهم.

ما حدث للأفغان العرب في القلعة المشؤومة كان خرقاً فاضحا لهذه المبادئ، فقد مورست ضدهم شتى صور المعاملة السيئة في احلك الظروف واقساها.

لقد ساهم تحالف الشمال الأفغاني في هذه المأساة وضد من؟ ضد من شاركه حمل لواء الجهاد بالأمس في حربهم مع السوفيت (!!). ان من حقنا ان نسأل الاستاذ رباني وبقية قياداته السياسية والميدانية، هل من اخلاق المسلمين قتل الاسرى حتى وان كانوا من غير المسلمين؟ ثم هل من الاسلام تصنيف الناس وفق أسس عنصرية بغيضة، فهذا اسير افغاني طاجكي يرحب به ويعاد لأهله، بينما ذاك اسير عربي ارهابي يسحل ويقتل ويمثل بجثته؟ وهل استعادة السلطة المسلوبة تمثل مبرراً شرعياً لسياسات الثأر العدوانية ضد الأسرى العرب المحسوبين على الطلبة (!!) من قبل اساتذة جهاد الأمس (!!) الذين لم يكونوا في حقيقة الأمر سوى أمراء حرب منذ خروج القوات السوفيتية من افغانستان.

* ضرورة كشف ملابسات المجزرة

* لقد كان جديراً بالاستاذ رباني ان يأمر بالبدء في اجراء التحقيقات اللازمة لكشف ملابسات المجزرة البشعة والاقتصاص من المتسبب فيها قبل ان تأتي المبادرة في ذلك من قبل المنظمات الانسانية. كما كان جديراً بالاستاذ رباني ان يصدر أوامر بعدم مواصلة قتل الاسرى لا ان يطلق يدي حليفه الحالي والشيوعي السابق دستم في تنفيذ المجزرة، ولا ان يوجه اللوم والعتب على من طالبه بحماية الاسرى العرب.

انني لا ابرئ المقاتلين العرب وغيرهم من الاجانب ممن انساقوا خلف الشعارات الجهادية رغم اختلاف ظروف المكان والزمان، ولكن ذلك لا يبرر البتة ما تعرض له هؤلاء من معاملة هي وصمة عار على كل من اشترك فيها، قبل ان تكون انتهاكاً لأحكام الشريعة الاسلامية والقانون الدولي.

ان المطلوب من الدول العربية تفهم اوضاع من بقي من هؤلاء على قيد الحياة ومنحهم فرصة العودة، بل والسعي الى تسلمهم ولا بأس من مساءلتهم ومحاكمتهم واعادة دمجهم وتأهيلهم، كما تقع على هؤلاء مسؤولية اخذ زمام مبادرة العودة لأوطانهم، فالشاعر العربي يعني تماماً ما قاله عندما قال:

وطني لو شغلت بالخلد عنه نازعتني اليه في الخلد نفسي