رجل من القاهرة

TT

الكاتب الكبير لا يولد كبيرا إلا على سبيل المجاز، وحين نمدحه بما صار اليه ونتناسى ما كان عليه نحرمه من الكثير من امجاده ناهيك من تجريده من انسانيته.

وفي حالة نجيب محفوظ ـ امد الله في عمره ـ والذي يدخل تسعينه ويحتفل بعيد ميلاده اليوم بدأنا نلاحظ عمليات تحويله الى «جورو»، وهو يستحق ذلك قطعا، لكننا حين نركز عليه بالنتائج دون المقدمات نحرم الاجيال الجديدة من قراءة قصة كفاحه الحقيقية، فقد كان مثلنا يجوع ويعطش ويضطهده الرقباء ويمنعون اعماله، وكان حرصه على الوظيفة الرسمية والراتب «الميري» يعكس قلقا انسانيا مشروعا لكل الذين عاشوا في ظل انظمة استبدادية قاهرة في القاهرة وغيرها من العواصم العربية، وهي انظمة تجعل الجميع يلعنون اليوم ويخافون الغد ويتحسرون على البارحة.

ان حكاية صراع نجيب محفوظ الهادئ مع الرقابة تعكس طبعه كموظف حكومي وكمفكر يؤمن بالتغيير البطيء واللاعنفي، فمعظم رواياته كانت تتعرض للحذف والتنقيح من قبل غيره وكان يقبل ذلك من دون ان يحدث أية ضجة مثل بعض الكتاب الذين تطير لهم جملة بالصدفة، فيحيلون المسألة الى نكسة قومية لا نهضة بعدها.

لقد رفض احمد بهاء الدين ـ رحمه الله ـ ان ينشر رواية «الحب تحت المطر» في الاهرام ثم تم رفض رواية الكرنك ايضا وبعد ان نشرت رواية «الحب تحت المطر» مسلسلة في مجلة الشباب بعد حذوفات فادحة ضاعت ملامح الشخصية الاساسية ولم يعد الناس يعرفون سر الغضب والاحباط الذي يبدو على مجموعة من المجندين الذين حطمت حرب الاستنزاف طموحاتهم في الحب والزواج والعمل.

وحكاية رواية اولاد حارتنا اشهر من ان يشار اليها، وقد ذكرناها لنؤكد ان الرقابة لم تكن من الدولة وحدها انما من الرأي العام، ورقابة الاخير اخطر من رقابة الدولة. ولنجيب محفوظ على هذا الصعيد شهادة قيمة حفظتها المستشرقة السويدية مارينا ستاغ في كتاب حدود حرية التعبير يقول فيها:

«كان هناك خوف عام في عهد عبد الناصر وكان من الخطر ان تعبر عن رأي يناقض رأي السادات او عبد الناصر، وكان يمكن ان يؤدي ذلك الى السجن. وفي عهد السادات اتخذت خطوات اولى نحو الديمقراطية ولكن مع قيود، كانت ديمقراطية مشروطة وكانت القيود هي السلام الاجتماعي والوحدة الوطنية وبعض القيم الدينية وغيرها. والمشكلة الآن ليست مع الدولة وانما مع الرأي العام، واستطيع ان اقول ان ذلك الرأي العام قد خلق من العقبات ما هو اكبر مما خلقه النظام في مجال الدين على سبيل المثال».

وقد كان نجيب محفوظ محظوظا لعلاقته الوثيقة بحسنين هيكل وقرب الثاني من اذن جمال عبد الناصر، فكثيرا ما تدخل هيكل لحل اشكاليات روايات نجيب محفوظ والافلام التي استندت اليها. فرواية «ثرثرة فوق النيل» ـ مثلا ـ اغضبت عبد الحكيم عامر، والاتحاد الاشتراكي تدخل بكل قوته الضاربة ليمنع عرض فيلم «ميرامار».

ورغم هذه الحماية «الفوقية» حاول صلاح نصر فتح ملف لنجيب محفوظ بعد نشر رواية «الكرنك» معتقدا ان الروائي الكبير كان يقصده بانتقاداته وتبين لاحقا ان نجيب محفوظ كان يكتب عن القمع، وفي ذهنه قائد السجن الحربي حمزة البسيوني.

وفي العراق سوف يحاول لاحقا عزيز السيد جاسم ان يلعب دور هيكل ولكن قرب رئيس آخر من طينة عراقية تجاوز قمعها حدود أية مخيلة، وكانت النتيجة ان صار عزيز السيد جاسم نفسه خلف القضبان ـ وهناك من يقول انه اعدم ـ دون ان يتمكن من فك الحصار المضروب على حرية التعبير او مساعدة أي كاتب او شاعر في بلاده.

ولا يضير نجيب محفوظ حين نروي سيرته ان يقال انه استفاد من خيرات السلطة ايضا ادبيا وماديا وعينيا على شكل مواقف تحميه من النقاد وألسنتهم واقلامهم فبعد ان نشرت «اولاد حارتنا» مسلسلة وحاول الكاتب نشرها في كتاب، اتصل به حسن صبري الخولي ممثل رئيس الجمهورية ليطلب نشرها خارج مصر، ووعد نجيب محفوظ حسب شهادته التي حفظتها ستاغ ان يمنع أية كتابة عنها في الصحف المصرية، معها او ضدها، وهذا تواطؤ مكشوف ومألوف بين بعض الكتاب وسلطات بلادهم.

ان اضاءة هذه الجوانب من سيرة نجيب محفوظ تجعله اكثر اشراقا وانسانية فالانسان ـ والاديب الكبير انسان بالدرجة الاولى ـ ليس دون اخطاء ولا يعيبه ان تكتشف له ثغرة هنا، ونقطة ضعف هناك فالعصمة ـ حسب الاغنية ـ لا تجوز الا لنبي ـ وحسب بعض المذاهب ـ إلا لإمام معصوم، والكاتب ليس هذا ولا ذاك انما رجل من القاهرة جاع للعدل، وعطش للحرية، وتلطم في الازقة والحواري، وادمن على العوامات والمقاهي التي استقى منها ملامح معظم شخصيات رواياته.