في سوسيولوجيا العنف والإرهاب

TT

عرفنا العنف، في حلقة سابقة، بأنه آلية من آليات الدفاع عن الذات ضد المخاطر التي تجابه الكائنات الحية، وبصورة خاصة الانسان والحيوان، ومن اجل العيش والبقاء. ولكن آليات هذه الغريزة وطرق اشباعها تختلف بين الانسان والحيوان، وذلك لأن الانسان «حيوان اجتماعي بطبعه» ومنتج ثقافة ومجتمع، ولكونه يتميز عن باقي الكائنات الحية الأخرى بأنه يمتلك عقلا يفكر به ولسانا يتكلم بواسطته ويعبر عما يريد، ويدا تنتج عملا وقوتا. وبهذه الخصائص الانثروبولوجية استطاع الانسان تهذيب غرائزه وتشذيب سلوكه وبناء حضارته وتوجيه امكاناته توجيها صحيحا ونافعا لخدمة الفرد والمجتمع.

* العنف بين الإنسان والحيوان

* لقد بقيت الغريزة الحيوانية طبيعية كما هي دون تهذيب وصقل لتعبّر عن نفسها بأشكال واساليب مباشرة، لذلك فالعنف عند الحيوان هو غريزي، في حين انه عند الانسان غريزي ايضا ولكنه مهذب ومصقول اجتماعيا، كما نلاحظه في التنافس والصراع من اجل العيش والبقاء عند الانسان والحيوان، مع اختلاف وسائلهما في تحقيق اهدافهما. واذا كان التحليل السوسيولوجي لظاهرة العنف هو من اكثر التحليلات قبولا، لأنه يفسر العنف عند الانسان بكونه ظاهرة اجتماعية وانه مدفوع لممارسته بسبب التنافس والصراع ومن اجل البقاء على الحياة، فإن الحيوان مدفوع للقيام به بطريقة غريزية صرفة وليس بطريقة اجتماعية، ولكن المهم هو ان الحيوان لا يمارس العنف مع افراد فصيلته، كما عند الانسان، وانما مع افراد فصائل أخرى من الحيوانات. فالاسد لا يلتهم اسودا، وانما يمارس العنف للسيطرة وحب البقاء. ومن الملاحظ ايضا ان الحيوان لا يستطيع التفنن باستخدام وسائل واساليب وادوات عنف متنوعة كالانسان، الذي حول العلم والتقنية الى وسائل ابادة وتدمير. فحين تتنافس الذئاب او الثيران والغزلان، فإن الحيوان الاضعف يخضع للأقوى، مبديا مظاهر الخضوع، كالهرب او الانبطاح على الارض، تجنبا للموت. اما الانسان، بحسب العلامة لورنس فلا يتصف بهذه الصفة، ولذلك يكون اندفاعه اكثر شدة واكثر خطورة مما هو عليه الحيوان.

ولكن العنف عند الانسان ليس مجرد وسيلة وأداة، لأنه يتطلب وجود ظروف وشروط مسبقة وكذلك حوافز لممارسته. واذا كانت الثورة الجينية (الهندسة الوراثية) لم توفر لنا حتى الآن أدلة علمية ثابتة على ان العوامل الوراثية تلعب دورا في تحديد اسباب العنف، بالرغم من الاختلافات بين المجتمعات والشعوب ودرجة ممارستها للعنف، فإن العوامل والظروف الاجتماعية والبيئية والسياسية تلعب دورا ليس قليلا في دفع الافراد الى ممارسة العنف بصورة لا عقلانية. وللعنف اهداف في مقدمتها المصلحة والقوة والسلطة وادواتها القمعية وتبريراتها الآيديولوجية.

* العنف أحد معوقات التقدم الاجتماعي

* ويعتبر التحليل السوسيولوجي للعنف اكثر قبولا، لأنه يفسر العنف بكونه ظاهرة اجتماعية تشمل جميع المجتمعات، وينطلق من التنافس على المصالح ويؤدي بدوره الى الصراع. واذا لم يحل الصراع بالطرق السلمية، فإنه يسبب فعل عنف مادي او معنوي، ويظهر في شكل الحروب والارهاب والاعمال الاجرامية والتسلط الفردي والجمعي والظلم والقمع والاستبداد. وبهذا يشكل العنف القطيعة الوحيدة الممكنة في سيرورة التقدم الاجتماعي والحضاري.

واذا كان هناك خلاف في تحديد مفهوم العنف، فليس هناك اختلاف في مخاطره الجسيمة وآثاره السلبية على الفرد والمجتمع والحضارة، وعلى العالم اجمع، دولا وشعوبا وافرادا، بحث هذه المشكلة العالمية الكبرى وطرق التعامل معها وتقديم الحلول الموضوعية للقضاء عليها، وما تتطلبه من عمل جدي وحوار عقلاني مستمر، وكذلك تحديد اطرافه ومن يقف وراءه من قريب او بعيد.

* العنف والعنف المضاد

* ولكن الاشكالية الرئيسية التي ترتبط بالعنف هي ان اغلب وسائله وادواته هي غير مشروعة ولا اخلاقية وهدفه التخلص من العدو بكل الوسائل والادوات، كالقتل والابادة الجسدية والاغتصاب والتدمير، كما في العنف الاعتدائي والارهاب، غير ان هناك اساليب اخرى تعتبر مشروعة تتمثل في شرعية استخدام العنف باعتباره عملا استثنائيا حين يمارس للدفاع عن النفس في اوقات الخطر، ومن اجل البقاء على الحياة او الدفاع عن الوطن. باعتباره عملا ينبثق من ظروف غير عادية وغير طبيعية فرضتها الظروف السياسية وحولتها الى قنوات للتعبير الحاد عن الرفض والشعور بالغضب العارم المخزون في ضمير الشعب، الذي فقد الارض والوطن والحرية والقدرة على الحركة، والذي فتح بابا واسعا امام العنف المضاد، باعتباره آخر الخيارات المطروحة على الشعب الفلسطيني للتحرر من عنف الصهيونية وارهابها واداتها القمعية المتمثلة بدولة اسرائيل، وبعد ان تحول الدفاع عن الذات الى مقاومة تنتظم في شرعية مضادة لحرب الابادة التي تشنها اسرائيل، وبعد ان تحولت المقاومة الى ثورة شعبية واسعة بدأت بثورة اطفال الحجارة.

* الثقافة والعنف

* ان جوهر احدى اهم المشاكل السوسيولوجية الرئيسية هي معرفة سياق التثقيف على نمو الفرد وتطور شخصيته وميوله التعاونية والعدوانية. فإذا كانت التنشئة الاجتماعية والتربوية تميل في مجتمع ما، الى تشجيع النزعة التعاونية، فإن سلوك الفرد يصبح في اغلب الاحتمالات، اجتماعيا ـ تعاونيا وليس انانيا، ولكن اذا طغت النزعة العدوانية على سلوك افراد المجتمع، فمن الممكن ان يسلك الفرد او يميل الى ان يسلك سلوكا عدوانيا او انانيا يتعارض مع القيم الاجتماعية العامة، ويمارس اساليب مباشرة وغير مباشرة ووفق آليات ورموز وحيل متنوعة يبرر بها الفرد وهم السيطرة على الآخرين.

والحال، ان التنشئة الاجتماعية والتربية والبيئة والتراث الثقافي وكذلك العلاقات الاجتماعية ـ السياسية، تلعب دورا هاما في جعل بعض الافراد او الشعوب اكثر ميلا الى استخدام العنف من غيرهم، مع ان المجتمعات البشرية القديمة والحديثة تستخدم العنف ولكن بأشكال ودرجات متباينة. ففي بعض المجتمعات ترتفع معدلات الجريمة والجنوح، كما في الولايات المتحدة الاميركية، وفي أخرى تنخفض هذه المعدلات الى درجة ملحوظة،، كما في السويد. ويعود ذلك الى نوعية الثقافة السائدة وكذلك الى المؤسسات الدينية والاجتماعية والثقافية التي تتدخل دوما للحد من استخدام العنف او تشجيعه. ومثالا على ذلك قبائل البشتون في افغانستان التي تعودت على استخدام العنف وبأشكال مختلفة وذلك بسبب الظروف القاسية التي مرت عليها خلال العقود الثلاثة الاخيرة التي جرتها الى حروب ومنازعات مع الدول وضدها، ومع الاثنيات والطوائف الأخرى، وبعضهم ضد البعض الآخر. وربما يكون الموقع الاستراتيجي الهام ودول الجوار والمصالح العالمية الاستعمارية المتضاربة والتخلف الاجتماعي والثقافي، عوامل مساعدة لهذه المآسي التراجيدية التي تمر بها افغانستان. وبحسب سوسيولوجيا العنف، باعتباره استجابة مكتسبة من البيئة الاجتماعية والسياسية والثقافية. ففي المجتمعات التي تسود فيها النزعة الأبوية ـ البطريكية وتقوى العصبيات القبلية والاثنية والطائفية وتتقدم فيها الحرية واحترام الرأي والرأي الآخر، يتراجع التفاهم والحوار امام العنف، ليدخل المجتمع في دوامة من الحروب والتسلط والارهاب، الذي لا يعاني منه النساء والاطفال والشيوخ والعجزة في افغانستان فحسب، بل ودول العالم الأخرى. وليس عجبا ان تكون اولى حروب القرن الواحد والعشرين في افغانستان وذلك بفعل الصدمة الحضارية التي تعيشها افغانستان في مواجهة الحداثة التي دخلت اليها بصورة مباشرة او غير مباشرة عن طريق التكنولوجيا وثورة المعلومات والاتصالات الالكترونية وما تفرزه وتثيره من معلومات تعتبرها طالبان كفرا والحادا.

ان هذه الآلام التراجيدية التي يعيشها الشعب الافغاني ليست سوى بداية لنهاية ليست قريبة.