النفاق اللغوي

TT

محظوظ من يعيش في بلد لسانه يقطر عسلاً فيستيقظ على كلمة «حبيبي» وينام على إيقاع «تسلم لي» ويقضي النهار بين من يناديه «روحي» وآخر «قلبي» وغيره «حياتي»، فأية نعمة أن تكون قلوب الآخرين وأرواحهم، وأية نقمة حين تكتشف أن ما تسمعه هو مجرد تطريز عبارات فرّغت من معناها، بحكم التكرار، حتى صارت محطات كلام تورّث بدون ان يؤسس لها، في الوعي، مكان عفيّ. والمسافة الفاصلة بين اللفظ ومعناه موجودة في اللغات كلها، وإذا ما أضفت إليها بهارات المجاملات العربية وتوابلها بات من الصعب تمييز النكهة الأصيلة للكلمة بعد ان فخخت وضمّخت بكم من المطيبات المراوغة . وهنا يقع الصدق في مأزق حرج، إذ ان الكلمة قد تحمل المعنى وضده، والفهم رهن بقدرة السامع على فك شيفرة اجتماعية «عصية» توافق عليها أهل اللغة، فحين يقال لك «تفضّل، البيت بيتك» فإن الجملة لا تعني بالضرورة ما تعنيه حرفياً، وإنما يبقى المعنى في «قلب المتحدث»، ومهمة السامع اللبيب ان يفهم من الإشارة، وبدونها أحياناً، كي لا يكون ضيفاً ثقيلاً وغير مرغوب فيه (على عكس ما صرّح به صاحب الدار). إذن هناك رغبة غير واعية، عند المتكلم في ان يبقيك مهووساً، لا بما يقول، وانما بما لم يقله، وربما لن يقوله أبدا. وهو ما يجعل ازدواجية الظاهر والباطن ظاهرة جماعية معروفة ومقبولة، لا تثير غرابة أحد أو استهجانه بل تبدو وكأنها من طبيعة اللغة نفسها، واللغة بريئة من أهواء مستخدميها.

ثمة كلمات لم تعد، بحكم العادة، تحمل كثير التباس، فان يقول لك لبناني، على سبيل المثال لا الحصر، عن شيء ما، بأنه «مقدّم» ويضيف أحياناً «بدون ثمنه» فهذا يعني، في الغالبية الكاسحة من الأحيان، أنه يرغب في ان تدفع ثمنه أو ان تعفّ عنه، وإلا كنت قليل الذوق أو عديمه. أما إذا قال لك «اشتقنا لك، ليش ما عم نشوفك» ولو بحماسة قد تبدو لك طالعة من حشائش القلب، فيفضل وهذا أسلم، ان تعتبر ما تسمعه محض تحبب أو من باب تفادي فجوة صمت محتملة. أما «ان شاء الله» فباتت لسوء الحظ، تحلّ مكان نعم و لا، في آن واحد (مجمع الأضداد).

وهي من ألمع وأبرع العبارات التي تصلح للتخلص والتملص وترك السامع معلقاً أمام إجابة لا يستطيع رفضها أو الاعتراض عليها ولو كان عاجزاً عن التكهن بمضمون ما تنطوي عليه.

قد يقال بأننا مجتمعات نديّة، دمها حار، وأمزجتها عاطفية، وهو من جميل طبائعنا، شرط ألاّ تتسبب في أن يشطح المجاز من حيز الملاطفة الدمثة إلى غابات من الثرثرة المجانية التي «لا تودي ولا تجيب»، لا بل يرجّح انها تؤدي إلى رذائل يغضّ الطرف عنها، إذ يصبح الانزلاق إلى النفاق أمراً ميسوراً، والانتقال من ظرف الكذب الأبيض إلى شرنقة الكذب الأسود ممهدا.

لا ريب في ان التمادي في تقبل نهج كلامي مخاتل، في جانب منه (بحجة المجاملة) يشكل عبئاً على من يتوخى صدقاً في المسلك، ووضوحاً في المقصد، وحسن نية بمن يسمع، إذ ان المسايرة تجرّ المسايرة، والتدليس يستدعي التدليس، ومن الجلافة ان تقول لمن يكنّ لك بغضاً ويعاتبك، رغم ذلك، على طول الغياب، بأن رؤية وجهه وعدمها بالنسبة لك سواء.

اعتبر بعض فلاسفة اللغة، القدماء منهم والمحدثون، ان اللغة تسهم في صناعة التفكير، بينما رأى بعض آخر ان التفكير هو الذي يقولب اللغة. وفي الحالتين، نحن مدعوون لمراقبة منزلقات الألسن، لفهم أوضح لذهنية تباعد بين ما تريد وما تقول، وكذلك بين ما تقول وما تفعل. لقد وصفت ثقافة العرب، من قبل بعض المستشرقين، أنها ثقافة شكل لا ثقافة مضمون، كما قيل إنها رهينة صيغ التوكيد والمبالغة، وإنها فضفاضة، بعيدة عن الوضوح والدقة. واعتبر العرب، من ناحيتهم، ان في هذه الاتهامات إساءة متعمدة لهم وتجنياً عليهم، لكن المفكرين والكتاب العرب أنفسهم ومنهم د.حليم بركات لم ينكروا ان «الحاجة قصوى إلى تعزيز قيم المعنى حين تتعارض مع قيم اللفظ، أو اللعب على الكلام، وقبله كان سلامة موسى قد خصص كتاباً حول الموضوع داعياً إلى لغة مضغوطة ومقتصدة في عباراتها وتراكيبها، واجداً ان التأنق في اللغة يأتي من الذكاء لا من البهرجة والوصف والإنشاء، رابطاً بين الصدق اللغوي للفرد واستقامته السلوكية. ومن طريف ما توصل إليه موسى ان حيوية اللغة تقاس بقدر ما فيها من أفعال. «فاللغات الانجليزية والفرنسية والألمانية ـ بحسب رأيه ـ أكثر أفعالاً من اللغة العربية لأنها أشد تفاعلاً مع مجتمعها». وأخذنا برأي سلامة موسى أم اعتبارنا إياه مجرد اجتهاد يحتاج إلى تدقيق، فإن الكلام في المجتمع العربي علاقته ملتبسة مع الأفكار، كما هي حاله مع الأفعال. بل يكاد يكون الكلام أمراً والفعل شأناً آخر، فـ«الحكي» بـ«بلاش» وما تسمعه، في الغالب، هو «حكي في حكي» إلا إذا كان «كلام رجال» وهي عبارة بات يقل استعمالها ويندر حتى ليظن ان الرجال والنساء دخلوا جميعهم خانة الإعفاء من الفعل.

ولا يستغرب في هذه الأجواء الحكواتية، ان يقدم اللبناني أو المصري، أو غيرهما من العرب الذين يتمتعون بهامش من الحرية، أثناء الانتخابات، على إعادة انتخاب المرشح نفسه الذي أطربهم في دورة انتخابية سابقة، بوعود لم ينفًّذ منها حرفاً واحداً. فالذاكرة قصيرة والخطابات تذهب هباء الريح، والحساب على الله لا على الشعب الفقير. وقد يكون من المفيد بعد العبر التي لم تؤخذ، لغاية اليوم، بعين الاعتبار، ان يتعاهد العرب في ما بينهم، كما تتعاهد الأمم الناضجة ـ وهم على أعتاب سنة جديدة ـ أن يكون عام 2002 هو «عام الأفعال» كي لا يكون على غرار مائة سنة من الخيبة المعجونة بمعسول الأقوال.

يقول المثل «الحقيقة تجرح» وثمة أناس هم، ربما، لفرط شفافيتهم، لا يطيقون جرح أحد، وبدلاً من أن يأخذوا الآخر بأحضان الحقيقة الفاصدة (الفصد في العربية جرح مقصود بهدف نبيل هو استخراج الدم الفاسد من الجسد) يبادرونه بلسان من سكر ولو كان القلب يقطر سماً.

[email protected]