حرب على الحقيقة في أوكرانيا

TT

بدت الحرب وشيكة في لحظة ما في الأسبوع الماضي، بعد يوم من التحذير الذي وجهه وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف إلى قادة أوكرانيا من استخدام القوة في الأزمة القائمة هناك، إذ هاجم الجيش الأوكراني نقطة تفتيش خارج بلدة سلوفيانسك.

ردت القوات الروسية عبر الحدود بمناورات وصفتها بـ«التدريبات»، وأصدر الكرملين تصريحات تصل إلى درجة التحذير. صور التلفزيون الروسي الوضع في سلوفيانسك وكأنها غيرنيكا؛ بينما نقلت وسائل الإعلام الأوكرانية أنباء عن استخدام المسلحين الانفصاليين رياض الأطفال دروعا بشرية.

وفي حين صعد الطرفان حملتيهما الدعائية، يجد العالم نوعا من الارتباك والشك وتشويه المعلومات الذي أوصل هذا الصراع إلى الحافة. أسفر عدم وجود سلطة شرعية في شرق أوكرانيا عن غياب حقائق نزيهة متفق عليها - وجعل منها ساحة للشكوك والألاعيب الدبلوماسية المستغلة على هامش الحقيقة مما قد يجر المنطقة إلى الحرب.

إذا نظرنا إلى «الرجال الخضر» المسلحين الذين استولوا على البلدات، وانتشرت صورهم في وسائل الإعلام في الشهر الحالي، هل يعملون لصالح الروس؟ قالت الولايات المتحدة إنه «لا مجال للشك» في استحقاق روسيا للوم. في المقابل أصدر الروس نفيا قاطعا. وظهر ضعف الدليل المصور الذي تملكه الحكومة الأوكرانية على تورط القوات الخاصة الروسية، نتيجة لأخطاء واضحة في تحديد المواقع وتعريفها، ولكن لم يتضح ذلك إلا بعد تقديم الصور إلى منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، وبعد أن أقرتها وزارة الخارجية الأميركية وأبرزتها وسائل الإعلام الأميركية.

لم تبتعد الشكوك عن أوكرانيا. ولكن أصبح عدم الاتفاق على الحقائق - وعدم الاطلاع على الواقع الأساسي - هو السائد. من الذي وزع المنشورات التي تأمر اليهود بالتسجيل لدى السلطات؟ هل هي «حكومة» جديدة معادية للسامية تطلق على ذاتها جمهورية دونستيك، كما تدعي الحكومة الأوكرانية، أو أنه استفزاز يهدف إلى تشويه صورة الانفصاليين الموالين لروسيا؟ ومن الذي قتل الرجال الثلاثة عند نقطة التفتيش في سلوفيانسك الأسبوع الماضي، هل هي الاستخبارات الروسية أم القوميون الأوكرانيون؟

يوجد المزيد من الأسئلة الأكثر عمقا في أوكرانيا، والتي كانت ستجد إجابة واحدة في حالة وجود كيان سياسي سليم يتوفر فيه مصادر معلومات موثوق بها: من الذي قتل الجماهير في ميدان الاستقلال في كييف في الشتاء الماضي؟ هل الحكومة الحالية ذات شرعية أم أنها جماعة أخرى مسلحة مطلوب منها إخلاء المباني الحكومية بموجب اتفاق جنيف؟

تعتمد الإجابات على من يُوجه له السؤال وأين. وفقا لروايات من غرب أوكرانيا، يوجد عميل روسي خلف كل حادث مؤسف. وفي كل من شرق أوكرانيا وجنوبها، من المعتقد أن مسلحين قوميين أوكرانيين، يتلقون دعما من الغرب يدبرون هذه الأحداث.

يظل غياب الحقيقة أحد الأعراض التي تُسرع بوقوع أوكرانيا في براثن الشك. لا تتوقف السلطة الشرعية - الحكومية والواقعية والقانونية والأخلاقية - عن الانهيار، وتسقط معها فرص الخروج بنتائج سلمية.

من الصعب تحديد متى بدأ هذا الانهيار: هل في نوفمبر (تشرين الثاني) 2013، عندما قمع الرئيس فيكتور يانوكوفيتش المظاهرات؛ أم في يناير (كانون الثاني) عندما واجه المتظاهرون القوانين القمعية بالعنف؛ أم في فبراير (شباط) عندما قتل القناصة أكثر من 100 متظاهر وشرطي. عندما جرت الإطاحة بيانوكوفيتش، في 21 فبراير، كان الانقسام واضحا. رحب غرب أوكرانيا بخلعه من منصبه واعتبر ما حدث ثورة، ولكن في المناطق التي كانت موالية لروسيا تاريخيا، وُصف ما حدث بالانقلاب.

لا يرجع السبب ببساطة إلى أن الحكومة الجديدة يغلب عليها الانتماء إلى الغرب. لأول مرة في تاريخ أوكرانيا بعد تفكك الاتحاد السوفياتي، تتغير السلطة من دون إجراء انتخابات. وأطلق الابتعاد عن المسار المؤسسي المتوقع العنان لقوى من الصعب احتواؤها. كتب توماس هوبز ببراعة عن الحياة في ظل غياب السلطة السياسية، ولكنه لم يستطع أن يتوقع التشتت الحديث للحقائق والأحداث الذي يصاحب انهيار السلطة.

وفي ظل ما يحدث اليوم من انهيار للسلطة بجميع أشكالها، أصبحت الحياة «سيئة وحقيرة وقصيرة»، بل وأيضا تعج بالمعلومات المضللة والأكاذيب حتى إنه لم يعد هناك طريق واضح إلى الحل. وهكذا يؤدي غياب الثقة إلى العمل المسلح.

لقد شاهدنا هذا الوضع من قبل: في البلقان ورواندا في التسعينات من القرن الماضي؛ وفي سوريا تحت حكم بشار الأسد اليوم؛ وتقريبا قبل كل مذبحة أوروبية كبرى في القرون السابقة، عندما كان اغتيال القيصر أو الهزيمة في الحرب يجعلان القادة المشككين يستخدمون الشائعات والدعاية لتحويل الانقسامات القديمة، التي غالبا ما تكون كامنة، إلى خطوط واضحة ومذابح. وذلك ما يثير الانزعاج بشأن القرارات المعادية للسامية المنتشرة في شرقي أوكرانيا (ومن المرجح أن تكون غير حقيقية).

تملك الأنظمة السياسية السليمة حقائق يمكنها الرجوع إليها، لأنها تملك مصادر سلطة موثوقا بها.

يمكن طلب شهادة ميلاد الرئيس، ويمكن لوسائل الإعلام والأفراد والخبراء التأكد من صحتها. ويجري حل الصراعات بسلام.

يغيب ذلك عن أوكرانيا. يأتي تشتت الإجماع حول الأحداث المهمة وانهيار السلطة السياسية الشرعية وكأنهما فارسان يمتطيان جواديهما معا نحو حتفهما.

إذا كان هناك أمل في الهروب من هذا المصير، يجب أن تستعيد أوكرانيا شرعية قيادتها وحقائقها. من الصعب معرفة كيف يمكن تحقيق ذلك بينما توشك على الوقوع في حرب أهلية أو تشهد تدخلا روسيا، أو كليهما.

يوجد في أوكرانيا مراقبون تابعون لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا. ولكن تفرض قوات حكومة كييف والانفصاليون الموالون لروسيا، قيودا على تحركاتهم. يجب أن توفر روسيا والولايات المتحدة وأوكرانيا وأوروبا، مزيدا من الموارد والسلطات لتقديم نقل محايد عن الواقع. ولكن في النهاية، تظل القدرة على استعادة السلطة الشرعية في يد حكومة كييف. ويبدو أن كييف عازمة على فعل ذلك بقوة السلاح، ولكن الشرعية لا تأتي من فوهة البندقية، بل من خلال انتخابات نزيهة. من المقرر أن تعقد الانتخابات في 25 مارس (آذار). ويجب على قادة كييف، كي يُظهروا نزاهة الانتخابات، أن يشركوا جنوب البلاد وشرقها في الحكومة، قبل أن تبدأ عملية الاقتراع.

وإذا لم يفعلوا، فربما تدمجهما روسيا أولا - باستخدام سلاحها هي.

* أستاذ مساعد

في الجامعة الأميركية

*خدمة «نيويورك تايمز»