احتواء إيران ومطالب التهدئة الإقليمية.. حقائق وأوهام!

TT

كلنا يتذكر حديث الصحافة الغربية بالمجمل، وتقييمها السلبي للحضور السياسي السعودي ما قبل «الربيع العربي»، على اعتبار أن المنطقة بأسرها كانت تُهيَّأ أو تتهيأ لتحولات كبرى باستبدال مكونات سياسية كانت في الهامش وبين أقواس «المعارضة» لتصبح بديلا عن الأنظمة السياسية، وبالتالي كان الحديث آنذاك ولو بشكل موارب وغير صريح يتحدث عن تغييرات في المنطقة ستؤدي بالضبط بدول الخليج، ومنها السعودية، باتجاه تنازلات ما في ما يخص التوازنات الإقليمية، عدا الحديث المكرور عادة عن تأثيرات متوقعة للربيع العربي على الداخل الخليجي.

الآن وقد دخلت المنطقة في أزمة أتون سياسي احترقت معه العديد من الكيانات والأنظمة، وصمدت دول ذات تأثير يتجاوز حضورها الجغرافي كإيران وتركيا، عاد الحديث مجددا عن دور سعودي في تخفيف أزمات ما بعد الربيع العربي، لكن باتجاه آخر يهدف إلى طرح ملف «التهدئة» مع إيران، وهو ما يعبّر عن موجة سياسية ثانية، فبعد فشل «ربيع الإسلام السياسي» الذي كان بدوره سيعيد توازنات المنطقة، ويضمن كل التسويات العالقة بين الغرب والإسلام السياسي بشقيه السني والشيعي، تطرح الآن مبادرات لنزع فتيل الأزمة بين إيران من جهة والخليج ودول المنطقة، على اعتبار أن أي تسوية من هذا النوع برعاية غربية - أميركية من شأنها نزع فتيل الأزمات السياسية والوصول لاحقا إلى صيغة توافقية إقليمية تشمل أمن إسرائيل، وإمدادات النفط.. إلخ.. قائمة المصالح الغربية في المنطقة. وبالطبع تلك المطالب تتوسل عادة قائمة أخرى من القيم السياسية والنظم والتطبيقات التي يفترض أن تكون صالحة لكل زمان ومكان وشعب بحكم ما تحمله من نجاحات تاريخية يجعل منها تجربة تبدو شبه مكتملة وقابلة للاستنساخ، وهنا مكمن الخطأ ولبّ الأزمة، فالإشكالية ليست في قيم الديمقراطية والتعددية والمشاركة السياسية والإصلاح الاقتصادي والعدالة الاجتماعية.. إلخ.. وهي قيم على عظمتها يمكن تفريغها من محتواها عبر استنساخها كأدوات وقتية للتغيير والوصول إلى سدة الحكم، وهذا ما أثبتته تجربة العسكرة في الأنظمة التي سبقت الربيع، وتجربة الإسلام السياسي مؤخرا.

الآن نحن بإزاء الانتقال من الصراع على تمثيل قوى سياسية للداخل، وإعادة مفهوم وصياغة مفهوم الدولة بعد فشل الربيع في أغلب المواقع، ليحضر بدلا عن ذلك الصراع الإقليمي الذي ينعكس على داخل تلك الدول غير المستقرة، وصولا إلى دول أخرى كما هو الحال في الانتخابات الرئاسية في لبنان والعراق، هذا عدا تأثير الصراع الإقليمي على القضية السورية واتجاه بوصلة التحالف في دول الربيع العربي.

نحن أمام حالة «تداخل سياسي» غير مسبوقة، وبالتالي من يحصر أزمة السعودية مع التمدد الإيراني، وتغير الموقف الغربي في الملف النووي فحسب، فهو مخطئ، فالإشكالية أن هناك قراءة اختزالية لواقع إيراني داخلي معقد، فالتمدد الإيراني ليس إلا جزءا من تفوق وجموح المؤسسات الأمنية التي يتقدمها الحرس الثوري الذي يتدخل بشكل مباشر في ملفات إقليمية كسوريا واليمن (اليمن ساحة صراع صامتة قابلة للانفجار في أي وقت).

الإشكالية أن الغرب يرهن مصالحته مع إيران مع تقدم المفاوضات في ملفها النووي، وهو عادة ما يتطلب وقتا أطول بكثير من الآثار المترتبة على التدخل الإيراني في سوريا، وفي اليمن والقرن الأفريقي، هذا التدخل الذي يستغل حالة التراخي الغربي طمعا في تقويض المشروع الإيراني النووي، وليس في كف يدها عن العبث باستقرار المنطقة في ما تبقى من مرحلة الديمقراطيين الأسوأ منذ قيام الولايات المتحدة بتقييمها الإقليمي، وإن كانت نقلة نوعية بالنسبة للأميركيين الذين يرون في تجربة أوباما إعادة تقليم لأظافر المحارب الأميركي التي عكستها إدارة الجمهوريين التي سبقت أوباما.

ما الذي يمكن أن نراهن عليه في إعادة لفت الأنظار الغربية خارج إطار المصالح، وإنما التحديات والمخاطر المحدقة بالمنطقة، والتي تشكل تهديدا مباشرا للاستقرار الداخلي وبالتالي للمصالح الغربية في المنطقة؟!

سؤال بهذا الحجم للأسف مرهون بمستقبل الصعود الجديد لنماذج مغايرة من الجماعات الإرهابية كـ«داعش» وأخواتها «النسخة المطورة» بين دمج «القاعدة» التقليدية مع العصابات الإجرامية، إضافة إلى ارتفاع المنسوب السياسي والاستخباراتي لدى هذه المجموعات الجديدة التي يبدو أنها ستجعل هموم المنطقة تبدو متقاربة لأطراف النزاع الإقليمي من جهة، والمجتمع الدولي من جهة أخرى، وهو أمر محزن جدا، ويعبر عن حالة «انسداد سياسي» كبير، وبالتالي تصوير أن السعودية ضد «التهدئة الإقليمية» هو مثل الزعم بأن احتواء إيران سيسهم في استقرار المنطقة.

[email protected]