ديمقراطية ومؤسّسات مع وقف التنفيذ

TT

يتباهى بعض أبناء الأقطار العربية التي طالما تغنّت بطول باعها في مجالات التنوير والثقافة وعراقة التجربة الديمقراطية، وأيضا تلك التي تزعم الريادة في النضال التحرّري ومعاداة الاستعمار والإمبريالية – وطبعا – إسرائيل، بأنهم أكثر «تقدّما» من إخوتهم في باقي عالمنا العربي، وأقرب منهم إلى معايير المواطَنة والحكم الرشيد وفق المصطلحات الدولية. إلا أننا إذا ذهبنا أبعد من المظاهر وتلمسنا واقع كياناتنا «الديمقراطية» و«الثورية» و«المناضلة» لوجدنا العجب.

ولنبدأ بالأمثلة البسيطة قبل عرض الحالات الفاضحة.

في العاصمة اللبنانية بيروت استضافت نقابة الصحافة بالأمس ما وُصف بـ«وقفة تضامنية» مع كاتب في صحيفة «الأخبار» ومسؤولة في قناة «الجديد» التلفزيونية دعت إليها نقابتا الصحافة والمحرّرين – كما فهمت – بعدما طلبت المحكمة الدولية، التي تنظر جريمة اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري، مثولهما أمامها بتهمتي تسريب معلومات ونشر أسماء الشهود، وبالتالي تهديد حياتهم. وما يعرفه اللبنانيون جيدا أن موقف المؤسّستين الإعلاميتين المذكورتين من الحريري كان مُعاديا، وهو معادٍ حتى اليوم لتياره السياسي وكل ما مثّل ويمثّل. وهنا أودّ القول إنه في الدول المتحضّرة، أولا، ثمة مبدأ ثابت هو احترام القضاء وآلياته.. ويعدّ عرقلة سير العدالة وتحقير القضاء مخالفات جُرمية. وثانيا، بما يخصّ حرية الإعلام، لا وجود لحريّات سائبة ومتفلّتة يحق لها تخوين زيد وهَدر دم عمرو ودخول بيت بكر بالكسر والخلع للعبث بمحتوياته.. بل على الإعلام أن يكون مسؤولا وموضوعيا ويعمل ضمن إطار القانون. وثالثا، فيما يتعلّق بالعمل النقابي، في حال تحدّي القانون لا يصحّ مبدأ «انصر أخاك ظالما أو مظلوما». التقدّمية والعروبة والممانعة والمقاومة شعارات جميلة لكنها لا تبرّر القتل أو التستّر على القتل أو حماية القَتلة.

ولنترك لبنان إلى الجزائر الحبيبة. الرئيس عبد العزيز بوتفليقة أدّى اليمين بعد فوزه بـ«عهدة» رابعة، وكان واضحا أثناء الاحتفال أنه ليس في وضع صحّي مشجّع بمواجهة التحدّيات الجِسام للمنصب. لكن كان لا بد من «عهدة رابعة» تأتي عبر ممارسة «الديمقراطية»... كونها الموضة السائدة والسلعة القابلة للتصدير الخارجي، فكان ما كان وسط اتهامات، تنفيها السلطة، بتسخير إمكانيات الدولية ومؤسّساتها لضمان الفوز وبغالبية مريحة. «الديمقراطية» هنا ليست تقليدا له مقوّمات في الضمير السياسي بل وسيلة استنسابية.. أو واجهة لما تريده القوى النافذة.

حتى في مصر، أم الدنيا وملاذ العرب، أثارت أحكام الإعدام بالجملة ضجة عالمية. الضجة لا تستبطن بالضرورة تبرئة المُدانين من ارتكاب أي مخالفات، بقدر ما تعبّر عمّا يرفضه المجتمع الدولي ممّا يراه «عقوبات جماعية» و«ضغوط سياسية» عبر أحكام قضائية يتوقّع الشارع المصري نفسه، قبل غيره، تخفيفها. الضجة الدولية المُثارة في دول غربية، تقف ضد جماعة الإخوان – ولقد حظرتها بعضها بالفعل – تستند إلى مبدأ تنزيه القضاء عن الاستغلال السياسي. وهذا من منطلق أن تسييس القضاء يشكّل البداية لانهيار أي مجتمع مدني.. لأنه آخر ضمانة لبقاء هذا المجتمع.

وهنا نصل إلى ما يصدُق وصفه بالحالات الفاضحة..

كارثي ما يحدث في سوريا والعراق، وهما دولتان عريقتان في حضارتيهما، ومؤسّستان لمنظمة الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية، وخاضتا حقّا تجربتين ديمقراطيتين رائدتين. وجانب مهم من كارثتي الدولتين الشقيقتين أنهما تجسّدان سقوط الذهنيات الضيقة عندما تتقنّع بشعارات برّاقة أكبر منها.. لا تستوعبها ولا تستطيع التعايش معها.

أصلا الحدود التي رسمتها «اتفاقية سايكس – بيكو» حدود مُصطنعة، بل وجرى تعديلها لتنتهي كما انتهت إليه. فليس هناك ما يميّز، من النواحي البيئية والاجتماعية والثقافية والديموغرافية، دير الزور والبوكمال في سوريا عن عانة وحديثة والرمادي في العراق. ولكن بعدما حملت الأحلام العروبية والتحريرية القوى التي وصفت نفسها بـ«القومية» و«التقدّمية» إلى السلطة، بدأ الصراع.. فأسقط «القوميون» حلفاءهم التكتيكيين «اليساريين»، ثم صفّى «البعثيون» شركاءهم العقائديين «القوميين العرب» و«الناصريين». وكانت ثالثة الأثافي التغيّر داخل البيت «البعثي» نفسه.. فغدا الحزب الفضفاض المنادي بخيمة عربية تمتدّ من الأحواز إلى الصومال وإريتريا (!) وحدود السنغال، إلى حزبين طائفيين عائليين «سنّي تكريتي» في العراق و«علوي أسدي» في سوريا. وبالتالي، ما كان غريبا العداء المستحكم بينهما طوال الفترة التي حكما فيها الدولتين. بل وصلت الأمور إلى أسوأ أشكال العداء مع تأييد دمشق إيران في الحرب العراقية – الإيرانية، وخوض نظاميهما بالواسطة جزءا لا بأس به من الحرب اللبنانية وتناهشهما حركة المقاومة الفلسطينية.

عراق صدام حسين – على الرغم من شعاراته العلمانية – انتهى مُحتلا، وطائفيا حتى العظم.. تتحكّم به التكليفات الشرعية والعمائم السوداء، ومهدّدا بالتقسيم العرقي رسميا بعدما «استقلّت» كردستان واقعيا عن بغداد. وبلغ عدد ضحايا حروب صدام «القومية» و«الأهلية» بين 1979 و2003 مئات الألوف وملايين المنكوبين والمهجّرين والنازحين.

حال سوريا ليس أفضل. فبعد حكم بوليسي ذكي مجلّل بكلام فارغ عن تحرير الجولان والممانعة والمقاومة منذ خريف 1973.. تغيّر فقط مستوى الذكاء عام 2000 بغياب حافظ الأسد. ففي عهد الأسد الابن عُمّمت تجربة حماه 1982 لتشمل عموم أراضي البلاد. وبرعاية طهران المباشرة تخوض دمشق اليوم حربا ضروسا على.. سوريا! هنا في لغة نظام الممانعة «العلماني» العدوّ ليس «مجوسيا» كحال عدوّ صدام.. بل «تكفيري» يخدم إسرائيل، التي نسيها تماما أشاوس النظام وحلفاؤهم وداعموه من «غير العلمانيين»، فغزوا بعيدا عنها.. حمص وأرياف حلب وحماه وإدلب وجبال القلمون وسهول حوران.

في الحالتين الكارثيتين يصرّ نوري المالكي وبشار الأسد على طمأنتنا إلى التزامهما بالديمقراطية.

المالكي يخوض معركته «الديمقراطية» ضد أهل الأنبار والموصل بحجّة مواجهة «القاعدة» وأشباهها.. مع تسارع العد العكسي لاستقلال الشمال الكردي. والأسد ينافس ستة مرشحين دفعة واحدة (!) للفوز بثقة شعب هجّر منه حتى الآن نحو ثلثه وقتل أكثر من 300 ألف نسمة ودمّرت عشرات المدن والبلدات على رؤوس سكانها.

من قال إن كلمة «ديمقراطية» باليونانية تعني «حكم الشعب»؟