الرد على نتنياهو: بناء غد فلسطيني أفضل

TT

بعد الذي تسرّب من «نصائح» وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، لأهل الحكم الإسرائيلي، خلال جلسة مغلقة، لم يعد الأمر بحاجة إلى تأكيد أن أي قول، أو فعل مُبادِر، من جانب الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، لن ينجح في الحصول على أي تغيير في موقف بنيامين نتنياهو، لأن رئيس حكومة تل أبيب يتصرف على أساس أنه الطرف الأقوى، الذي يحق له وحده فرض مسار أي تفاوض، وإلى أين سيفضي. هل يعني هذا أن ينفض الجانب الفلسطيني يديه من مجمل العملية التفاوضية، معلناً للعالم أنه يئس من تكرار المحاولة؟

منطقياً، سيبدو ذلك القرار مقبولاً، بل هو موقف تطالب به أصوات تعارض مبدأ التفاوض من أساسه، جملة وتفصيلاً، سواء بين الفلسطينيين أو على امتداد العالم العربي، وهي أصوات دأبت على أن تتوقع الفشل لكل مسار تفاوضي جديد قبل أن يبدأ، وذلك هو - بالطبع، بل بالتأكيد - ما يريده نتنياهو نفسه وكل من لف لفّه داخل تيار التشدد في إسرائيل الدولة، وبين أجنحة الصهيونية، كحركة عقائدية تحكم توجهات تختلف في أساليبها إنما يجمعها مبدأ «الاتفاق على الاختلاف» بما يضمن مصالح حيوية لمجمل الإسرائيليين، بصرف النظر عما يختلفون حوله. سأقفز عن مقاربة التلاقي بين أصوات التشدد على ضفتين (فلسطينية/ عربية - وإسرائيلية/ صهيونية) يُفترض أنهما على عداء شديد، لكن كلاً منهما يصب في منبع الآخر، ومن دون افتراض أن ثمة «تآمرا» يصنع مواقف الطرفين، كما يحلو لمعظم من ينهل من منابعهما رمي المختلفين معهم به، أي التآمر لمصلحة العدو. نعم، أقفز عن تلك المقاربة كي أسأل: أكثير على ساسة الفلسطينيين وزعاماتهم، أن يتفقوا، كما الإسرائيليين، على مبدأ «الاتفاق على الاختلاف» بما يضمن مصالح حيوية لمجمل الفلسطينيين؟ أليست تكفي ست وستون سنة مضت على قيام إسرائيل، كي يبتكر العقل الفلسطيني أساليب عقلانية تتعامل مع أمر واقع (فلسطينياً وإسرائيلياً) لن يتغير بغية تحقيق نتائج إيجابية للشعبين، من دون تغيير حقيقي وجِدي في أساليب الطرفين؟ أم ترى أن مثل هذه الأسئلة فيها شيء من لسعة العلاج بالكي؟

بالطبع، جاهز هنا جواب الفريق الفلسطيني المعارض لمبدأ التفاوض: أمامك المِثال الأخير، ما الذي حصل؟ هل قدم نتنياهو شيئاً يُذكر؟ وجوابي أيضا حاضر: كلا، لم يقدم أي شيء، بل استقوى وتعجرف، ثم اشترط وعرقل، إنما لأنه تحديداً على هذا النحو الأخرق تصرف، فإن الطرف الفلسطيني لن يخسر إنْ صبر فواصل التمسك بالسلام منهجاً، وبالتفاوض وسيلة. حقاً، ماذا سيخسر الفلسطينيون بإصرارهم على سلوك المنهج السلمي وصولاً إلى حقوقهم المشروعة؟ مزيد من المستوطنات؟ لكن، أليس ذلك ما هو حاصل بالمفاوضات ومن دونها؟ وما المكسب إذنْ؟ فقط فرصة الالتفات إلى بناء واقع أفضل على المستويات كافة، تعليماً وثقافة، اقتصاداً وتقنيةً. وهل مهمة كهذه هيّنة، وإنجاز بذلك الحجم قليل الأهمية؟

بالتأكيد كلا، ومن هنا أهمية ثبات اتفاق المصالحة (غزة – الأربعاء 23 الشهر الماضي) وأن يمضي قُدماً نحو تحقيق أولى غاياته على الأرض، بصرف النظر عما انتهى إليه التفاوض من فشل، أي تشكيل حكومة وحدة وطنية يُفترض أنها ستكون حكومة تكنوقراط ببرنامج محدد موجه نحو تطوير الواقع الفلسطيني. في هذا السياق، ستجد حركة حماس نفسها موضع تساؤل وترقب، هل تتصرف على نحو يسهّل الأمور أم العكس؟ الواقع أن الحركة تتعرض لاختبار سياسي ليس سهلاً، بل يمكن بسهولة ملاحظة ما يلاحقها من تعليقات استفزازية لم يتردد بعضها عن التشكيك في وطنيتها، لمجرد إقدامها على اتفاق مصالحة تتطلبه مصلحة شعبها في فلسطين وخارجها، وليس فقط بسبب أوضاع غزة، أو لمصلحتها كتنظيم. يضاف إلى ذلك أن كلاً من حركتي حماس وفتح تواجهان معاً اختبار حماية اتفاق غزة إزاء محاولات آخرين تعطيل الاتفاق أو نسفه تماما، فثمة أطراف داخل فتح ذاتها ترى أن اتفاق المصالحة أجل حسم معركة تصفية حسابات داخلية، وهناك أطراف حليفة لحركة حماس ضمن إطار «المقاومة الإسلامية» العريض، لها تحالفاتها المعروفة مع جهات أمنية في عواصم معروفة أيضاً، فإذا تطيَّرت تلك الجهات تحديداً، وعنها صدرت أوامر محددة، فتطايرت شظايا الصواريخ من غزة، ستكون تلك ضربة قاصمة لظهر اتفاق المصالحة، وستعود الحكاية سيرتها الأولى، أي «كأنك يا بوزيد ما غزيت»، وساعتها يفرك نتنياهو، هو خصوصاً، يديه فرحاً وابتهاجاً.

مؤامرة؟ كلا، كلا، هو فقط توافق المصالح بين الأضداد. حسناً، متى يجوز للمتأملين بواقع فلسطيني أفضل لأناس أغلبهم من المتألمين، خصوصاً في معسكرات اللاجئين، أن يأملوا بـ«مؤامرة» مصالحة فلسطينية ترد على عجرفة نتنياهو والتطرف الذي يمثله، بأن تدفع بالفعل، لا بالقول فقط، نحو بناء المستقبل، الغد الفلسطيني الأفضل، طالما أن حال الحاضر هو الحال القائم، بمفاوضات أو من دونها؟

سواء نصح مستر كيري (هو نفى) أو لم ينصح نتنياهو ومن حوله، بأن إسرائيل تخاطر بالتحوّل إلى «جنوب أفريقيا» جديدة، الواقع ذاته يقول إنه ما لم يسارع الإسرائيليون أنفسهم إلى التخلص من نهج نتنياهو، ومن يماثله، فإن إسرائيل الدولة ستفرض على العالم أن يعاملها كما تعامل مع جنوب أفريقيا الفصل العنصري، وساعتها لن تنفعها الحركة الصهيونية كعقيدة، قد تعينها بعض الشيء ضمن نشاط جماعات الضغط (اللوبي)، خصوصاً في الغرب، لكن ذلك لن يفيد طويلاً. من هنا، تكراراً، يستفيد الفلسطيني أكثر مما يخسر، كلما أصر على أن السلام منهجه، وأن صلف نتنياهو ومن سار على نهجه، أو التقى معه في تشدده، لن يوصل أي فلسطيني إلى اليأس، بل سيدفعه لبناء ما تحرر من الأرض، في انتظار غد أفضل، لا بد سيأتي.

[email protected]