العاملون الحقيقيون في البلدان العربية

TT

أن تحتفل بعيد ما يعني أنه يخصك ويعنيك بمقدار ما وفي نقطة معينة.

إلى أي مدى يُمكن تطبيق هذه الفكرة على احتفال معظم الشعوب العربية أمس بعيد الشغل مثلها في ذلك كمثل كل شعوب العالم؟ إنه مناسبة مهمة، ذات ذكريات تاريخية منقوشة في ذاكرة العالم والعاملين الذين فرضوه مناسبة من أجل الدفاع عن حقوق العمال. أي أنه نظريا مناسبة مميزة تحتفل بأهم خصائص الإنسان وسر تفوقه: العمل.

تُقارب أغلبية المنظمات والجمعيات في البلدان العربية تحديدا يوم «عيد الشغل» من خلال استعراض عدد العاطلين عن العمل في تلك البلدان ومدى تفشي ظاهرة البطالة مقاربة بالسنوات الماضية وأيضا الحجم الديمغرافي للفئة الشبابية المتضررة من ظاهرة البطالة، وغير ذلك من المواضيع والإشكاليات ذات الصلة أولا وأساسا بمشكلة العمل.

ويمكن القول إن معظم الذين تناولوا ظاهرة البطالة بالبحث والتمحيص والتقليب ركزوا على مسألتين اثنتين؛ الأولى البعد الاقتصادي والثانية القصور المؤكد في وضع استراتيجية تنموية، تُخفف من حدة ظاهرة البطالة ومظاهر تناميها. لذلك، فالجامع بين مختلف الباحثين في مسألة البطالة أنها ظاهرة اقتصادية تنموية بالأساس، وهو ما يعني أنها ظاهرة واضحة الأسباب وفي حاجة فقط إلى اجتهادات استثنائية في مستوى التفكير في سبل خلق فرص العمل والربط بين سوق الشغل والتكوين المهني والتعليم الجامعي ومختلف تخصصاته.

ولكن المشكلة المعقدة حقيقة والتي نكاد نمر عليها مرور الكرام في أحسن الحالات تتمثل في السؤالين التاليين: كم يبلغ عدد العاملين فعليا في البلدان العربية؟ كم هو عدد العاملين الذين يعملون بجد ولهم نظرة إيجابية للعمل بوصفه قيمة إنسانية واجتماعية مركزية؟

أعتقد أن الإجابة الكميّة عن هذين السؤالين شبه مستحيلة!

من الممكن الاستناد إلى إحصائيات منظمة العمل العربية الأخيرة والقول إن عدد العاطلين بلغ 20 مليون شخص، ولكن من الصعوبة بمكان التلويح ولو بنسبة تقريبية بحجم الأفراد العرب الذين يولون لعملهم الأهمية والجهد والتقدير اللازم.

لذلك أعتقد أنه من الأجدى اليوم ونحن نعيش مخاضات عسيرة على أكثر من صعيد أن نستثمر مناسبة احتفال العالم أمس بعيد الشغل كي نمارس نوعا من النقد الذاتي كم نحن في حاجة ماسة وضرورية إليه!

يقوم نقدنا على فرضية مفادها أن قيمة العمل في المجتمعات العربية هي ذات محمول سلبي وبالتالي فهي قيمة معطلة اجتماعيا. وكمثال على ذلك نذكر ما ورد في تقرير لمنظمة «غالوب» الأميركية من أن خمسة في المائة فقط من التونسيين ملتزمون بعملهم بجدية، وقد لا نكون مجحفين إذا قمنا بتعميم النسبة المشار إليها على عموم المجتمعات العربية.

إذن نحن أمام نوع آخر من المقاربات والقراءات لعلاقة المجتمعات العربية بمفهوم العمل. وهي مقاربة ثقافية اجتماعية نفسية محضة. ومن منظور هذه المقاربة المسكوت عنها عربيا، فإن بعض العاملين يصبحون متساوين مع المعطلين عن العمل مع فارق أن العاطلين هم عاطلون اختياريا خلافا للمعطلين عن العمل إجباريا واضطراريا.

وإذا ما بحثنا في قيمة العمل في المخيال الاجتماعي العربي لوجدنا أن العمل تاريخيا وفي العصر الجاهلي تحديدا من مشمولات الأقل قيمة اجتماعية والأدنى وضعية اقتصادية في تراتبية القبيلة. أي أن العمل من وظيفة الأمة والعبد، ممّا يعني أن العمل في الثقافة العربية شكل في حقبة تاريخية معينة آلية تمايز اجتماعي. كما أنه - أي العمل - ارتبط في التمثلات الاجتماعية للأفراد بمحمول رمزي سلبي دوني والحال أنه مجال لتحقيق الذات ولإثبات جوهر الهوية الذاتية والتفرد والتميز.

ورغم أن الدين الإسلامي بوأ العمل مكانة جوهرية واحتفل النص القرآني بقيمة العمل جاعلا منها قلب الإيمان وعلامته الأقوى، فإن مدى تجاوز تلك الثقافة القائمة على الموقف السلبي من العمل والنظرة الدونية له ظل تجاوزا ضعيفا، الأمر الذي يُظهر سطوة التصورات الثقافية في استمرارية بعض القيم وتجذرها في الممارسات الاجتماعية للمجتمعات العربية.

وممّا زاد في تغلغل النظرة السلبية إزاء قيمة العمل وضعف تقديرها ذاتيا أن ثقافة النظم الشمولية في كثير من البلدان العربية كرست قيم الولاء والمحسوبية والوساطة، التي ضربت بعمق قيمة العمل وجعلت منها قيمة في مقام ثانوي باعتبار أن التقدير السياسي والاجتماعي يقوم على الولاء والقرابة لا على تعظيم قيمة الكفاءة والأكثر ذكاء وإخلاصا وتفانيا في عمله.

ويبدو لنا أن هذه القيم السلبية هي التي ساهمت بشكل من الأشكال في تجريد قيمة العمل من محمولها الإيجابي الأصلي.

نحن اليوم أمام فرصة تاريخية جديدة لإعادة بناء علاقة جيدة وصحية مع قيمة العمل، فمن غير الممكن الاعتقاد في الإصلاح وفي التنعم بالأمن والحقوق الأساسية والعامة كافة ونحن لا نزال نولي الكسل كل الاعتبار والتقدير والعمل كل الاحتقار ممارسة وكل التمجيد قولا.