شعارات مضللة.. ودعايات رخيصة

TT

ثورة كلامية وتصريحات نارية تنطلق بين فترة وأخرى حول المرأة وعالمها بشكل يعيد تكريس حالة العزلة والحجر والإقصاء، وربما الاجتثاث الاجتماعي والإنساني الذي تعانيه في هذه المنطقة من العالم.

ما إن تطرح قضية تخص المرأة أو تتعلق بدورها بالحياة أو مصيرها حتى تقوم الدنيا على أثرها ولا تقعد على كل وسائل التواصل الاجتماعي بين فريقين متزمتين يستفز كل منهما الآخر بما يبديه من رأي أو تصريحات أو تلميحات. حزمة كثيفة من الشعارات غير المنطقية وبعيدة كل البعد عن الواقعية، يتم رفعها بشكل يخلق جوًا من التوتر والتزمت والتطرف ومصادرة الآخر.. في ضيق من الأفق لا يسمح لصوت العقل والمنطق والتسامح أن يكون جزءًا منه. يدخل على أثره الشارع بمن هب ودب للمناصرة أو المعارضة في وجه الفريق الآخر، فتتحول أعراض الناس إلى مشاع للتقييم أو القذف، وفي أحيان كثيرة ينتقل هذا الشحن إلى الشارع ويترجم إلى اعتداءات مباشرة قد يأخذ بعضها الضرب الجسدي، ومن دون أن يؤخذ بعين الاعتبار خلفيات هذه الاعتداءات ومن دون وضع حد للقفز على خصوصيات الناس والتدخل بشؤونهم، وممارسة وصاية سافرة ومتعالية عليهم وعلى نسائهم.

أزمة هذين الفريقين (الأعلى صوتًا) أنهما لا يعيان أن الجدل الدائر بينهما، وبشكله الحالي حول المرأة وما يمارسانه تجاهها هو بحد ذاته جريمة بحق المرأة، وبالتالي بحق المجتمع باعتبار المرأة عامل الاستقرار الرئيس للأسرة.. والذي يجب عدم المساس بها والتعامل معها كحالة استثنائية.. كما أن هذا الجدل فتح باب الاجتهادات على مصراعيه حتى بلغ حدًا غير مقبول من التجريح والنيل من كرامة المرأة كأم وزوجة وأخت وبنت. وتجاوز في المقابل كل الحدود بالانتقاص من قدرتها العقلية والجسدية على حماية نفسها وتقرير مصيرها، وأيضا بالانتقاص من قدرة أهلها على حمايتها، في مجتمع يعتبر المرأة أحد أكثر الجوانب حساسية، إن لم يكن أكثرها مطلقًا.

إن التعرض لـلمرأة تحت مظلة من الشعارات الفارغة هو اعتداء سافر على كيان المرأة ومفهومها كبشر وعلى عائلتها وكرامتها، وتدخل صريح في خصوصيات الناس بشكل مستفز لا يقل خطورة ولا بشاعة عما يقوم به فريق ما يسمى دعم الحريات والليبرالية من خلال تثوير المرأة على حياتها وتصوير واقعها الاجتماعي على أنه شيء يجب عدم القبول به، تحت شعارات مزيفة من الحرية والاستقلالية وتحقيق الذات.

لا فرق بين وجهي العملة.. ما دام الفريقان يعملان بنفس الاتجاه ويستخدمان ذات الدعاية الرخيصة، ويهدفان لنفس النتيجة باستخدام تقنيات العزل والاحتقار للمرأة وإخراجها من نسيجها الاجتماعي الطبيعي لتصبح عنصرًا مختبريًا يخضع طوال الوقت لمجهر الفحص والتدقيق، متجاهلين هذا المجتمع العريض والمعني أولًا، وأخيرًا بصون كرامته وكرامة نسائه أمام نفسه قبل أي طرف آخر.

مصادرة المرأة والتعالي عليها بإخراجها من حيزها الاجتماعي والنفسي وتحويلها إلى كيان غير واضح المعالم في المستقبل، وتلقينها «ما يجب» من دون نقاش، ليس بالأمر السهل ولا الأمر الذي يمكن الاستهانة به وبقبوله، خصوصًا إذا أخذنا بعين الاعتبار دورها الرئيس في بناء الأسرة والحفاظ على استقرارها، وبالتالي الحفاظ على استقرار المجتمع ومستقبله.

مسألة تزايد عدد حالات الطلاق والعنف والعزوف عن الزواج.. وغيرها من المسائل الخطيرة لم تأت مصادفة، ولم يبعث بها من كوكب آخر، وإنما هي نتيجة لهذا الضجيج الهائل والمخيف الذي يقوم به هذان الفريقان المتناحران. المرأة ليست بحاجة لهذا الشحن ولا لهذا الكم الكبير من المطالبات بالقمع أو بالثورة من كلا الفريقين واللذين يصوران نفسيهما على أنهما أكثر معرفة ورحمة بالمرأة من غيرهما.. فليس كل الآباء والإخوان والأزواج والأبناء سيئين بحاجة لمن يلقنهم دروسًا في الرحمة والإنسانية والمحبة، تحت شعارات الحرية والاستقلالية، كما أنهم في المقابل ليسوا بحاجة لدروس في العزة والرجولة والكرامة من قبل مجموعة من مجهولي الهوية الفكرية والنفسية والأخلاقية.

فلم يسبق أن بلغ أمر التعرض لأعراض الناس هذا الحد المخيف من الاستسهال والقبول. فحادثة ضرب فتاة من قبل رجل لا يمت لها بصلة لا من قريب ولا من بعيد (مهما كان سلوكها) هو سابقة خطيرة قد تشعل معركة بين قبيلتين لا تقف شرارتها عند حد.

إن أمر عمل المرأة، وابتعاثها للتعليم أو سفرها، أو ممارستها للرياضة، هو أمر لا يعني هذين الفريقين ولا غيرهما لا من قريب ولا من بعيد، كما أنه ليس من شؤونهما الحياتية ما داما لم يحصلا على تفويض قانوني للحديث في شؤون الناس نيابة عن الناس. فهناك قانون دولة من الواجب احترامه بالقبول أو بالنقاش، وليس باستغلاله، وهناك مجتمع أدرى بـ«شعابه ونسائه» من أي طرف آخر، يجب احترام وعيه لذاته بعدم القفز عليه بممارسة شيء من الهيمنة الفكرية أو الدينية.. وبعدم كيل الشتائم له!

فالمجتمع الخليجي، ليس مجتمعًا أفغانيًا بالمعنى «الطالباني» ولن يكون. كما أنه ليس مجتمعًا فرنسيًا بالمعنى «الليبرالي» ولن يكون بحكم هويته التي لو فقدها لأصبح مصيره التلاشي والتفتت! وإنما هو مجتمع يحمل خصوصيته وثقافته ويدرك «محرماته الاجتماعية» جيدًا من دون الحاجة لهذا النشاز السلوكي واللفظي الذي يقوم به البعض تجاهه.

* كاتب سعودي