حان وقت الإصلاح في بلدان التحول العربي

TT

أخيرا، بدأنا نلمس بعض البوادر الإيجابية في البلدان العربية التي تمر بتحول سياسي. فالبيئة الخارجية تواصل التحسن مع ارتفاع النمو لدى الشركاء التجاريين (وخاصة أوروبا) وتراجع أسعار الغذاء في الآونة الأخيرة. وساعدت جهود تنويع الاقتصاد، كالتي يبذلها المغرب، على زيادة الصادرات والاستثمار الأجنبي المباشر. وهناك عدة بلدان ظهرت قدرتها على زيادة الاستثمار العام - فيما يعد ثمرة مبكرة لجهودها الرامية إلى تحرير مواردها القليلة للاستخدام في مصارف الإنفاق الضرورية من خلال تحسين توجيه الحماية الاجتماعية إلى مستحقيها وتعزيز الموارد العامة.

ولكن الموقف لا يزال صعبا في هذه البلدان رغم ما تحقق من تحسن طفيف غير متوقع في معدل النمو حتى بلغ متوسطا قدره ثلاثة في المائة تقريبا هذا العام. فالبطالة التي تبلغ 13 في المائة في المتوسط - وضعف هذا المعدل تقريبا بالنسبة للشباب - لا تزال مرتفعة إلى حد غير مقبول، بينما يعني ضعْف آفاق النمو أنه من المرجح أن تستمر هذه المشكلة لفترة طويلة. ويتناقض هذا تناقضا صارخا مع طموحات المواطنين - في جمهوريات الربيع العربي - الذين نزلوا إلى الشوارع في عام 2011 مطالبين بالحصول على فرص اقتصادية أفضل وأكثر عدالة.

وكما يحدث كثيرا في الظروف الاقتصادية الصعبة، كان تركيز صناع السياسات منصبا على الحفاظ على الاستقرار الاقتصادي مع اتخاذ تدابير لتخفيف الآلام الاقتصادية والضغوط الاجتماعية - السياسية على المدى القصير. وتم تكريس وقت وجهد أقل بكثير للسياسات اللازمة لتعزيز النمو وتوظيف العمالة على أساس قابل للاستمرار.

والآن، مع ظهور دلائل على أن ضغوط تحقيق الاستقرار قد تراجعت إلى حد ما، هناك فرصة لتركيز الجهود على النمو الداعم لفرص العمل. وقد طرح الصندوق، في تقرير صدر أخيرا، رؤية شاملة للسياسات متوسطة الأجل التي يمكن أن تحقق النمو. وجدول الأعمال حافل في هذا الخصوص، إذ يغطي مجالات مثل عناصر الميزانية الأكثر دعما للنمو، وسياسات النقد والصرف الداعمة لاستقرار التضخم والنمو. ومن المهم أيضا القول إن جدول الأعمال يتضمن إصلاحات عميقة لتنشيط القطاع الخاص ومعالجة قضايا عدم المساواة: سياسات القطاع المالي التي تدعم الاستقرار المالي وتزيد من فرص الحصول على التمويل، وتحقيق تكامل تجاري أوثق وأعمق، وقواعد تنظيم الأعمال التي تزيل القيود على أنشطة ريادة الأعمال وتعالج الفساد، وإصلاحات سوق العمل ونظام التعليم، وإقامة شبكات أكثر فاعلية للأمان الاجتماعي تكون أقل اعتمادا على دعم الطاقة المعمم وأكثر اعتمادا على التدابير الموجهة.

وليس هذا جدول أعمال جديدا، وعلى كل بلد أن يحدد أولوياته في الإصلاح. لكن المهم بالنسبة للجميع هو المهارة في ترتيب الأولويات وخطوات التنفيذ في البيئة الحالية، وقيام صناع السياسات باغتنام فرص الإصلاح كلما ظهرت. وهناك صعوبة في تنفيذ كثير من الإصلاحات الضرورية أثناء فترات التحول السياسي، لكن بعضها يمكن إجراؤه بشكل فوري ومن شأنه المساهمة في تحسين الثقة، مثل تبسيط القواعد المنظمة للأعمال (إجراءات بدء مؤسسات الأعمال أو تسجيل الممتلكات أو الحصول على التصاريح)، وتدريب العاطلين عن العمل والعمالة غير الماهرة، وتحسين الإجراءات الجمركية. وبالمثل، سيكون من المهم كسب التأييد الجماهيري للإصلاحات المزمعة، مما يدعو إلى قيام الحكومات بعملية تشاورية واسعة النطاق مع مختلف شرائح المجتمع ووضع استراتيجيات دقيقة للتواصل معها.

وطوال هذه المرحلة، سيواصل الصندوق مشاركته الوثيقة في جهود بلدان التحول العربي. وهناك مناقشات جارية بالفعل مع الحكومات والبنوك المركزية حول توجه سياساتها الاقتصادية الكلية. ونعمل على مساعدة البلدان في بناء مؤسسات أفضل من خلال المساعدة الفنية والتدريب في مجالات مثل إدارة المالية العامة، وإصلاح القطاع المالي، والإحصاءات، والإدارة الضريبية، وإدارة الدين. وقد خصصنا نحو عشرة مليارات دولار لدعم البرامج الوطنية للإصلاح الاقتصادي في الأردن والمغرب وتونس واليمن، ونجري مناقشات مع اليمن حول تقديم مساعدات مالية إضافية.

وبالإضافة إلى ما نقدمه من مشورة بشأن السياسات ومساعدات فنية ودعم مالي، نعقد اجتماعات تضم صناع السياسات والخبراء من مختلف أنحاء المنطقة وخارجها لتبادل الخبرات حول كيفية التقدم في تنفيذ جدول أعمال الإصلاح. وقد خرجت رسالة واضحة من صناع السياسات الإقليميين أثناء اجتماعات الربيع المشتركة التي عقدها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي في واشنطن، وهي أن الأهم من معرفة «ماذا» (أي تحديد الإصلاحات المطلوبة) هو تبادل الخبرات حول «كيفية» التقدم في الإصلاحات الاقتصادية التي تعد ضرورية رغم صعوبتها من الناحية السياسية. وسيكون هذا الموضوع هو القضية الرئيسة في مؤتمر إقليمي رفيع المستوى تستضيفه الشهر المقبل في عمان كل من الحكومة الأردنية والصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي وصندوق النقد الدولي.

إن أمام بلدان التحول العربي فرصة لا تتكرر مرتين في الجيل الواحد لكي تعيد النظر في استراتيجياتها الاقتصادية، وسوف نعمل على دعمها بكل ما نملك من قدرات. وستكون العملية صعبة، وسوف تتخللها النكسات - دونما شك، لكننا يجب أن نعمل معا نحو تحسين مستويات المعيشة وزيادة الوظائف وتحسين الفرص الاقتصادية المتاحة للمواطنين في هذه البلدان.

* مدير إدارة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى بصندوق النقد الدولي