باريس تجبرك!

TT

باريس هدف كل الباحثين عن الرفاهية والاستمتاع بملاذ الدنيا من المشاهد المبهرة والطبيعة الأخاذة، وأجود ما عرفته الإنسانية من مخرجات الإبداع والفنون والآداب والرفاهية والفخامة، هذا ما أجمع عليه العالم وبات متعارفا عليه. فلقد تعود أهل فرنسا عموما، وسكان باريس تحديدا، على زوار من كل صوب ومكان حول العالم، يتدفقون بعشرات الآلاف ليعيشوا حالة من الانبهار في مدينتهم الساحرة، ويغرقوا في أسواقها وشوارعها ومطاعمها، ويلهثوا للتبضع من أهم ماركاتها وعلاماتها التجارية. وباريس تعودت على استقبال أرتال من الزوار من مناطق معينة من العالم، بحسب الحالة الاقتصادية المزدهرة والمنتعشة في هذه البلاد، يجيئون للإنفاق الكثير، واستعراض حالتهم الاقتصادية، عبر شراء أشهر السلع والماركات. فمر على باريس موجة غير بسيطة من الأميركان، ثم جاء العرب، وبعدها جاء الروس، والآن وقت الصينيين القادمين إليها بأعداد مهولة وغير مسبوقة أبدا.

والمشاهد المصاحبة لهذا «الغزو» النهم، مثل مشهد رجال صينيين، ومعهم نساؤهم وأطفالهم، وهم يصطفون منذ ساعات الصباح الباكر أمام المحلات، قبل أن تفتح أبوابها، ثم انتظارهم داخل المحل بانتظار أي من البائعات الموجودات حتى يجبن عن استفساراتهم وطلباتهم.. مثل هذه المشاهد تدعو للشفقة على أقل تقدير.

لقد تمكنت مجموعة من الماركات الباريسية المهمة مثل «شانيل» و«لوي فيتون» و«هيرميس» أن تكون بالنسبة للعالم ما هو أشبه بالسحر أو المخدرات التي أدمن عليها كل من عرفها أو سمع عنها. فرنسا التي تقلصت مكانتها الصناعية والزراعية بالتدريج عبر السنوات الماضية باتت تركز، وبقوة شديدة، على مجالي السياحة والفخامة وكل توابعهما كمصدر دخل رئيسي ورافد اقتصادي حيوي لتنمية مواردها المالية، وأوجدت عبر الترويج الدقيق والتسويق الذكي والإبراز المدروس هالة أسطورية حولها وحول منتجاتها حتى أقنعت الناس حول العالم أن الحياة «لا تكتمل» إلا بآخر صيحات حقائبها أو أحذيتها أو عطورها أو ملابسها، وكل ذلك الإقناع الأسطوري لا يتأتى إلا من بلد لديه إرث حضاري وتاريخي استثنائي، ليكسب منه ويغذي نفسه من أرشيفه، متأثرا بالفنون والآداب والمسرح والموسيقى والتصاميم والمعمار المصاحبة لكل هذا الثراء الموجود في الإرث العظيم.

لقد بالغت في الغرق والانغماس في هذا التاريخ حتى أهملت الحاضر وتناست المستقبل تماما. وهذا الإحساس بالخروج من عجلة اليوم وفقدان البوصلة الخاصة بالغد أدى إلى تولد شعور بالانفصام الحاد في الشخصية، يصاحبه شعور وإحساس قوي بانعدام الثقة في النفس، فكيف لأمة وشعب حكم العالم، وكان ملهما لفنونه وحضارته، ومصدرا للإبداع، لا يجد لنفسه مكانا بين قادة الدول الكبرى العالمية المؤثرة فعلا وصدقا وحقا، وليس بالشكل الرمزي القديم فقط. الحلبة الأخيرة للإبداع الفرنسي مجالها السياحة والفخامة، فباريس لا تزال تعد نفسها مصدر الأناقة والفخامة للعالم بأسره، وإن من ينشدها ويقصدها يأتي إليها ليأخذ منها ويستمتع بها، لأن لديها ما لا تستطيع أي مدينة أخرى ولا مكان آخر أن يقدمه أو يوفره مهما كان مؤثرا ومبهرا. والأمثلة على ذلك واضحة فيما تقدمه لندن ونيويورك وروما وطوكيو وهونغ كونغ، على سبيل المثال لا الحصر، فقد حاولت أن تتفوق على باريس بتقليدها بشكل أفضل، ولكنها لم تتمكن، فكل ما استطاعت إنجازه المنافسة، ولكن بقيت لباريس مكانتها التي لا تزال تحتل الجهة السياحية الأولى حول العالم لراغبي الرومانسية والأناقة والفخامة والسياحة الجميلة، بحسب استطلاعات رأي عدة ومهمة.

رجل أعمال إندونيسي لديه إمبراطورية صناعية كبرى ويوظف أكثر من ستة آلاف عامل في معامله، اضطر مع وزوجته وابنته أن ينتظر أكثر من ساعتين في أحد البوتيكات الباريسية الكبرى، لأجل الحصول على موعد للتحدث مع بائعة حتى يسألها عن حقيبة يد.. كان يشتعل غضبا، ولكنه انتظر وقال، وهو يتحسر متنهدا، إنها باريس التي تجبرك على تحملها، لأنه لا يوجد مثلها.