السمنة الصحية.. وهم أم حقيقة؟

TT

يعتمد الطب في نصائحه وإرشاداته على وقائع يستدل بها في استنتاج مجموعات من الحقائق. والحقائق الطبية هي من نوع الوقائع التي تعارضها الأوهام، وليست من نوع الصدق الذي يُعارضه الكذب. ولذا فإن فلسفة العلم في الطب ونظريته في توسيع المعرفة الصحيحة تتجه نحو تأكيد وجود أو حدوث أمور معينة، أو نفيها، بغية تحقيق حفاظ الإنسان على مستوى جيد من الصحة على أقل تقدير، وسلامته من الإصابة بالأمراض، وفقا لوقائع تثبت تسبب كذا وكذا في إصابة المرء بالأمراض الفلانية أو تسبب كذا وكذا في وقايته منها أو زوال أعراض الأمراض عنه كعلاج.

ويُوجد خيط رفيع بين بعض الحقائق الطبية وتطبيقها بطريقة واقعية في حفاظ المرء على صحته أو وقايته من الإصابة بالأمراض أو في معالجة أي نوع من الأمراض إذا ما أصابته.

ويأتي الخلط في ترجمة كثير من الحقائق الطبية، كتطبيقات عملية على الناس، من مقارنتها بحقائق لم تُبن بالأصل على تتبع الوقائع. وعلى سبيل المثال، وجود جبل ما مبني على إما لمسه أو رؤيته أو تواتر السماع عن وجوده حقيقة، ولذا ثمة حق اليقين وعين اليقين وعلم اليقين. أما الحقائق الطبية فهي مبنية على دراسات وملاحظات وتجارب تربط فيما بين وقائع معينة لاستنتاج علاقة السبب بالنتيجة، أي تناول أطعمة معينة قد يُؤدي إلى الإصابة بأعراض معينة، أو التعرض لقرص البعوض المحمّل بميكروبات الملاريا قد يُعرّض للإصابة بمرض الملاريا. ولكن الوقائع تلك، ومراحل تكوينها، عُرضة للخلل الذي قد يمنع حصول النتيجة رغم وجود السبب، ولا سيما أن الحقائق الطبية تتحدث عن أحداث وتفاعلات تحصل في داخل الجسم وعن ميكروبات لا يُمكن رؤيتها بالعين المجردة، بخلاف التعامل مع الحيوانات المفترسة وغيرها.

وتعد السمنة إحدى المشكلات الصحية وفق التقييم الطبي، وهي كذلك بناء على تأثيراتها الآنية وتأثيراتها المستقبلية، ولكن يبقى التساؤل لدى البعض وفق مشاهدات واقعية آنية أن ثمة بدينين أصحاء، لا يُعانون تحديدا من ارتفاع ضغط الدم ولا من اضطرابات الكولسترول والدهون ولا مرض السكري، وبالتالي هم ليسوا عُرضة للإصابة بأمراض الشرايين القلبية وتداعياتها ومضاعفاتها. وهو ما يطرح بالتالي سؤالا مفاده: هل هناك سمنة صحية؟ أو بعبارة أخرى: هل يُمكن أن يكون البدين متمتعا بصحة جيدة؟

ويثير هذا الموضوع تساؤلات طبية، آخرها ما نشرته «مجلة الكلية الأميركية لطب القلب» Journal of the American College of Cardiology ضمن عدد 30 أبريل (نيسان) الماضي لنتائج دراسة الباحثين من كوريا حول مدى سلامة صحة القلب لدى البدينين الذين لديهم ضغط دم طبيعي ومعدلات كولسترول ودهون طبيعية ونسبة سكر في الدم طبيعية أيضاً. وتابع الباحثون في دراستهم أكثر من 14 ألف شخص بالغ من الجنسين، الذين تتراوح أعمارهم ما بين 39 59 سنة. وقارن الباحثون بين فئة ذوي الوزن الطبيعي منهم بفئة أولئك الذين لديهم سمنة أو زيادة في الوزن. وتبين للباحثين أن الأشخاص البدينين هم أكثر إصابة بترسبات الكولسترول في الشرايين وتسببها بضيق الشرايين القلبية لديهم، مقارنة بذوي الوزن الطبيعي.

وكتب الدكتور ريشي بيور، مدير مختبرات تصوير تصلب الشرايين في كليفلاند كلينك مقالة تحريرية للتعريف والتعليق على الدراسة، جاء فيها قوله: «يُحاول البشر معرفة ما إذا كان ثمة سمنة وصحة في نفس الوقت، ولكن حتى البدينين الذين ليس لديهم ارتفاع في ضغط الدم أو الكولسترول أو مرض السكري سيتحولون غالبا مع مرور الوقت إلى أشخاص لديهم اضطرابات في أحد الأمور تلك، وهو ما بالتالي يضعهم عُرضة لمخاطر الإصابة بأمراض الشرايين القلبية أو السكتة الدماغية أو الإصابة بمرض السكري». وتساءل: «لدينا تحد حي كبير على مستوى صحة المجتمعات وعلى مستوى الصحة الفردية عند التعامل مع السمنة، ووجود السمنة لا يضر بالقلب فقط، بل بالمفاصل والحالة النفسية واحتمالات الإصابة بالأورام وغيرها من الأمراض. ونتوقع أن يكون عبء السمنة الاقتصادي عاليا في مجال نفقات الرعاية الصحية». واستطرد بالقول: «حتى لو وجدنا شخصا بدينا ليس لديه مرض في القلب على المدى القصير، هل معنى هذا أن نُهمل المشكلة لديه؟».

والحقيقة أن نظرة أحدنا إلى الحقائق الطبية يجدر أن تتبنى نهج الاستفادة منها، لا نهج محاولة نفيها أو مخالفتها بحجة وجود حالات لا تنطبق عليها أو تصدق فيها. وفي هذا تتشابه الحقائق الطبية مع كثير من خبرات ومعلومات البشر التي جرى التوصل إليها بالبحث والملاحظة والمتابعة، والتي في كثير منها ينطبق المثل: السعيد منْ وُعظ بغيره.

* استشاري باطنية وقلب مركز الأمير سلطان للقلب في الرياض

[email protected]