في الرّد على الشّيخ ومريده

TT

نشرت جريدة «الشرق الأوسط» بتاريخ 2-05-2014 مقالين في الرّد على مقالة سابقة قمت بكتابتها على هذا المنبر الكريم. أحدهما أصيل للأستاذ رضوان السيّد، والآخر فضولي لأحد شرّاح الهوامش على متون المقالات، وهي سمة المريدين والمتمذهبين عبر العصور.

أبدأ بمقال المريد العلوي الّذي وصفني بالقـــارئ اعتقادا منه أنّه يؤدبني بذلك، ولـم يعلـم كم كانت فرحتي كبيرة بهذه الصفة فـي زمن يُستكتب فيه النّـاس فيكتبـون أكثر ممّا يقرؤون، ويتكلّمـون أكثر ممّـا يسمعون. أمّا خطبته الوعظيّة فــي آداب الحـوار وقواعد السّجـال، فكان حريّا به أن يوجهها إلـى شيخه الّذي كـال لنــا صنوف التّهم دون بيّنة، غير أنّ تصرفـه هـذا مبرر لأنّ عين المريـد عليلة عن أن تـرى سقطات شيخه.

بهذه المقدمة أردت أن أنهي سجـالا لا طائل من ورائه؛ فالأستاذ رضوان السيّد يصرّ علــى اعتبـار رابطة العقلانيين العرب حزبا سياسيا يجب أن يذيع في النّاس الخطابات الحماسيّة، وأن يحدّد موقفه مـن كافة القضايا السياسية والاجتماعية يومـا بيوم، وأن يصطفّ إلـى جـانب هذا الفريق أو ذاك حتّـى يغـرق في لُجج التنابذ الطائفي الّتي شارفت على ابتلاع عقول النّخب العربيّة بكاملها.

وكبادرة منّي لإنهاء هذا الخلاف أطلب من الكاتب قراءة بيان تـأسيس رابطة العقلانيين العرب علّه يجيبه عن كثيـر من الأسئلــة الّتـي تشغله، فتنقشع غيـوم الشّك الّتـي تراوده. وعند اطــلاعه عليه سـوف يعرف أنّنا رغم غربتنا الّتي فُرضت علينا بسبب الاستبـداد لم نغترب، ولم ننسلخ عن ذواتنـا كما ذكر فـي مقالــه الأخير، بل حملنــا هموم أوطاننا فــي المنافي، ونحـاول جاهدين الإسهـام، من خلال منشوراتنا التي أربت على المائة ومن خلال موقعنا الإلكتروني الأوان، في نقلة نوعيّة لمجتمعاتنا الّتي دُمرّت بفعل الدكتاتوريات واستفحال الهمجيّة في بناها القدامية.

إنّ اتّهــام العقلانيين العرب فــي عروبتهم ودينهـم ووطنيتهم وتصويرهم بالخلعـاء الجـدد هو خطاب نهيب بالمفكر رضوان السيّد ألّا يستعملـه فـي مـواجهة أيٍّ كـان بسبب خصومة سـياسية أو فكـرية، لأنّه يذكِّرنا بأســاليب دول الاستبداد فــي تصفية خصومهــا. وليس لدينـا النيّة في الرّد علـى من يتّهمنا بذلك، لأنّنا نعلم بإمكانية اللّقاء في نهـاية المطاف علـى المقـاصد السّامية رغم الضبــابية الّتـي تعتمر جوارحنا بفعل الآلام.

وبذلك سننتقل من الاتّهامـات المتبادلة وضروب الشناء، إلى أرضية الفكر الّتـي قد تسهم في فهم ما يجري اليــوم من محن علـى أرض العرب، وهذا مـا يهم قــرّاء صحيفة جـادة كالّتي تستضيفنا علــى صفحاتها.

ثمّة موقفـان سياسيان على الســاحة العربية: موقف يرى أن ما يجري من تحــارب في بعض البلاد العربية وعلى الأخصّ العراق وسوريا هي معارك شعوب ضدّ الاستبداد سوف تُنهى بانتصــارها حقبة التخلف والفســاد والطغيــان لتلج بعدها هذه الشعوب عصور الحداثــة والحريّة والتنمية المستدامة الّتي حرمت منها.

هذا الفريق يبسّط الصراع ويختزله فـي طرفين متعيِّنين بوضوح جلـيّ؛ طرف يمثله المستبد الظـالم، والآخر تمثلـه قــوى ثورية متمـاسكة ومتنــاغمة ثقافيـا وسياسيـا واجتماعيـا. ويغض بـصره عن رؤية التنـاقضات الحـالية والمحــاذير المستقبليـة، ويـرفض أيّ نظـرة نقديّة لشيعته مكرســا سطـــوة الدّمـاغ الغريزي والانفعالي علـى حساب الدّماغ المعرفي الكـابح. وهذه سمة أصيلة وسمت كـافة الصراعــات البدائية عبر التّاريخ في الحروب القبلية والإثنية والطائفية.

وفريق آخر يتّفق مع الأوّل فـي توصيف الطرف الممثل للاستبداد والفسـاد، ويرى أنّ الإجهاز عليه ليس واجبا سياسيا فقط بل هو واجب أخلاقـي بالدرجة الأولى، ولكنّه يتساءل ثمّ ماذا؟ عن القـوى الّتي ستخلف هذه الـدول الدكتاتورية وعلـى ماذا ستقيم أنظمتها المستقبلية؟ ومـا هي رؤيتها في تصفية تركة الاستبـداد؟ ومـا هي نظرتهــا إلى المختلف الإثني والدينـي؟ وهل سقوط الطغــاة هو بدايــة للاستقـرار أو استهلال للاحتراب بين مكوّنات المجتمع المختلفة؟ وهل سيكون المستهدف دولة مدنية تدشّن عصر الحريّات أو الرجوع إلى إعادة انتاج الأنظمة الباطشة بتكريس قوّة شوكة العصبيات؟ وهل هذه القـوى الجديدة - الّتـي ستنتصر - تستطيع الحفاظ علـى الوطن كإقليم متمـاسك أم أننا سنرى تشظّيا للوطن إلـى دويلات طائفية؟ أي أن هذا الّذي يسمى بالربيع العربي قد يخلِّصنا من الأنظمة الشّمولية -، ولكنّنا قد لا نجد أوطانا - نقيم عليها دولنا البديلة المبتغاة.

-لهذه الأسبـــاب تقفُ كثـير مـن النخـب العربيـة مذهــولة إلـى درجة الشَّلل الفكري حـائرة بين هذه الخيـارات الموجعة. إنّ المفكـرين والمثقفيـن العرب بكـلّ خلفيـاتهم الثقـافية والفلسفية سواء كـانوا من التنويريين أو الإســلاميين أو اليمينيين أو اليســاريين يجب أن يتحاوروا حـوارا بنّاءً من أجل إيضاح الرؤى وتنسيق المواقف، لأنّ هذه الأحداث الّتي تجري على السّاحة العربية هي تهديد وجودي وليست محض صراع أفكار وآيديولوجيات تعوّدنا عليها في الصالونات المغلقة كما في العقود السابقة. وحتّى لا نتوه في العموميات علينا أن نأخذ الحالة السورية كموضوع لنقاشاتنا باعتبارها المثل الأكبر وضوحا والأكثر وجعا.

في سوريـا نظام قمعي ككلّ الدكتاتوريات الّتـي سقطت فـي أرض العرب، ولكنّه يتميّز عنهـا بأنّه الأكثر دموية وولوعا بالإجرام وسفك الدّماء. هذا النّظام استطاع أن يختطف جزءا كبيرا من الطائفة العلوية ويربطها قسرا بمصيره، ثمّ استنجد بالإيرانيين فهبّوا لنصرته من خلال حزب الله الّذي استولـى علـى أكثرية الطائفة الشيعيّة في لبنان منذ زمن بعيد، وكذلك بعض التنظيمـات الطـائفية شبه الفكريّة العراقيّة الموالية لملالي إيران. ومن الجهة الأخرى دخلت في أرض المعركة «القاعدة» بذراعيها داعش وجبهة النصرة وأحرار الشام واحتكرت تمثيل الطائفة السنّية بإعلانها الحرب المقدسة باسمها. أمّا الجيش الحرّ الّذي كنا نرى فيه الأمل باعتبــاره جزءا من الجيش الوطنـي الرافض للنظام، والّذي كـان بإمكانه إذا انتصر أن يحفظ وحده البلاد، ويشكّل الكتلة الحريصة لقيــام الدولة المدنية الجديدة، فقد انحسر دوره وأصبح أقليّة في حرب الطوائف الدائرة.

كلّ مـا هو متيقَّن لدينا هــو تلك العذابـات الّتي يعـاني منها الشعب السّوري الّذي دُمرت مدنه وقُراه، واضطرّ إلـى النــزوح الدّاخلـي والتهجير القسريّ إلـى دول الجـوار بعد أن انهـالت عليه براميل النظام المتفجّرة في السّماء، وتنكيل داعش وجبهة النصرة على الأرض. إنّ هذه الحرب لم تكتفِ بقتل النّاس بل استهدفت واغتالت الذاكرة السورية، الّتي تعتبر جزءا مهما من الذاكرة الكونيّة، من خلال تدمير تراثها الإنساني الضارب في أعماق التّاريخ.

بعد استعراض هذه الوقــائع المحزنة، أودّ أن أطرح مجموعة من الأسئلة وأدعو ليس رضوان السـيّد فقط وإنّما كــافة المفكرين والمثقفين العرب للإجــابة عنها بنزاهة فكريّة خارج نطــاق الآيديولوجيـات والأفكار المسّبقة.

أوّلا: بعد سقوط النظام الأسدي الّذي نتمنى جميعا زواله، هل يمكن أن تبقى سوريــا موحّدة محتفظة بكل فسيفســائها الدينية والعرقية وأن تقوم دولة وطنية تحترم حقـوق هذه الأقلّيــات وتكرس حقوق الإنســان والمواطنة آخذين في الاعتبار القوّة الضاربة الّتي ستخلفه وهي تنظيمات «القاعدة»؟

ثانيا: ما هـي تداعيات انتصار هذه القـوى الجديدة المتشددة علــى لبنان والأردن والمنطقة برمّتها؟ هل سنشهد تكويـن دويلات طائفية متناحرة؟ أم أنّ ثمّة قوّة إقليمية أو دولية قـادرة علـى طرد أئمة الضلال الطائفي بكلّ أطيافه، وتمكين الشعب السوريّ من إقامة دولته العصرية المرجوة؟

ثالثا: هل يمكنُ بناءُ أوطانٍ ودولٍ حديثةٍ اليوم من خلال محاولة إعـادة إنتاج الفتنة الكبرى وتداعيــاتها التاريخية وقسمة دار السّلام إلـى طرفين يكفّر كل منهما الآخر، ويدعي السيطرة وامتلاك الحقيقة المطلقة؟ أم أنّ الدول الحديثة لا تبقي إلاّ علــى فكرة المواطنة لأنّه ليس من مهامهــا ضرب الضمـائر، وهذا يجد فــي القرآن نفسه سندا يعكس ما تدّعيه «القاعدة» وكُثُرٌ من المتشددين؟

رابعا: هل تستطيع النّخب العربية، في حال انغماسها بدورها في الاصطفاف الطائفي، أن تتحمّل المسؤولية الوطنية والقوميّة والأخلاقية وأن تتحاشى التفريط فــي أجزاء مهمّة من مكوّنــات شعوبها بدفعها إلــى الارتمـاء في أحضان الأمم الأخرى كالأمّة الفارسيّة الّتي يحكمها ملالي ذوو توجهات توسّعية وعداء توثيقي للعرب؟ أوَلا يرى هؤلاء المتشددون أنّهم يساهمون فـي إنجاح المشروع الإيراني التوسعي من خلال السقوط فـي الفخّ الطائفي وإجبار الأقلّيــات – كما الأكثريات - علــى تحالفات عقدية خارج نطاق المواطنة ممّــا يسهل تفكيك مجتمعاتنـا والتهامها من هؤلاء المتربصين؟

إنّ الإجــابة عن هذه الأسئلة أو مـا قد يضاف عليهــا من أسئلة أخرى من خـلال الحوار سوف يـثري النّقاش الّذي أثاره السيد رضوان السيّد وسوف تتّضح بجلاء كافة المواقف الملتبسة والآراء المواربة.