بصيرة العدالة العمياء

TT

أثار تحقيق بوليس آيرلندا الشمالية في جرائم وقعت قبل 30 عاما إشكاليات تاريخية وسياسية وفلسفية أخلاقية.

البوليس احتجز جيري آدامز أشهر زعماء الحركة الجمهورية الناشطين ورئيس حزب شين فين الواجهة السياسية لمنظمة الجيش الجمهوري الآيرلندي وكانت حتى بضع سنوات (قبل اتفاق الجمعة العظيمة) مدرجة في قوائم الإرهاب.

أخلى البوليس سبيل آدامز بعد أربعة أيام على ذمة التحقيق.

ورغم أن حزبه اتهم البوليس بالاشتراك في لعبة سياسية غير نظيفة خاصة أن الحزب يخوض الانتخابات المحلية وانتخابات البرلمان الأوروبي بعد 12 يوما فقط، مما أثار شبهات البعض بأن الغرض تعطيل زعيم الحزب عن الترويج في العملية الانتخابية؛ فإن الإشكالية تتجاوز هذه الجزئية.

كان التحقيق مع المستر آدامز بتهم التآمر على ارتكاب جريمتي الخطف والقتل بالتعذيب، وإخفاء المعلومات لتعطيل سير التحقيقات الجنائية. الجريمة موضع التحقيق وقعت قبل أكثر من 30 عاما. الجريمة كانت اختطاف خلية من الحركة الجمهورية الآيرلندية للسيدة جين ماكنوفيل تحت تهديد السلاح أمام أطفالها «كعميلة بأجهزة الأمن وتبلغ عن نشاط خلايا المنظمة». السيدة ماكنوفيل لم تعد أبدا لأطفالها ولم يعثر على جثتها إلا بعد أكثر من 15 عاما وبعد خوض ابنها الأكبر مفاوضات مع عدد من قادة ساسة الحركة الجمهورية؛ وكان آدامز نفسه مشاركا في المفاوضات التي أدت للإرشاد على مكان جثة السيدة. ومشاركته الآلة الظرفية التي يستند إليها البوليس. الإشكالية الأولى أن الجيران وسكان الحي وقت اختطاف السيدة ماكنوفيل تستروا على مرتكبي الجريمة. وكأي بلد يتشكل تركيبه الديموغرافي من طوائف أو عرقيات؛ فإن شمال آيرلندا تجد فيها مناطق خالصة للبروتستانت الموالين للتاج البريطاني (وهم أكثر تعصبا للعرش من الإنجليز) وأخرى للجمهوريين وأغلبهم من الكاثوليك. ورغم غياب أي أدلة على تورط السيدة في أعمال التجسس لصالح أجهزة الأمن فإن الشائعات التي ترددت حول مدى ولائها للحركة الجمهورية كانت كافية لتجريد أمهات مثلها من مشاعر الأمومة وتجاهلن هول المأساة عندما اختطفت من دارها تحت تهديد السلاح أمام أطفالها وكان بعضهم دون السادسة من العمر.

والإشكالية الأولى هي تناسي الأفراد لفرديتهم، (والقوانين تتعامل مع الأفراد وليس مع تيارات أو جماعات) وذوبان الهوية الفردية (والتجرد من المشاعر الإنسانية العادية) والتحرك بعقلية القطيع؛ خاصة في ظروف الصراع السياسي عندما يتخذ شكل الاستقطاب الطائفي أو الآيديولوجي.

وقد يتساءل القارئ ما الذي دفع البوليس لفتح التحقيق بعد 30 عاما خاصة أن المنظمة تخلت عن الإرهاب واعتذرت للشعبين الآيرلندي والبريطاني عن أعمال العنف ودخلت في المصالحة السياسية وأصبحت شريكا في الحكم؟

فالحركة الجمهورية قد تعود للعنف إذا رسخ اعتقادها بتآمر البوليس ضدها.

وهو أيضا ما يثير الإشكالية الثانية، والتي ربما أكثر اهتماما لقراء في بلدان مرت بها ثورات أو حلت أنظمة جديدة محل أنظمة قديمة، ودخلت الأطراف السياسية عملية تصفية حسابات، وإن كانت تتم تحت مسميات أخرى كمحاربة فساد العهد البائد (الزائل) الساقط... إلخ، أو محاسبة المسؤولين عن التعذيب أو الثوار... إلخ. هذه الإشكالية هي الثمن الذي يدفعه الفرد أو المجتمع أو مبدأ العدالة العمياء والالتزام بحكم القانون في مقابل الاستقرار وتجنب الاضطرابات وتجنب العودة بأي ثمن إلى زمن الحرب الأهلية – وهو ما كان حدث بالفعل في شمال آيرلندا رغم تجنب الساسة، سواء في آيرلندا نفسها أو في الحكومة القومية في لندن (وحكومة الظل المعارضة أيضا) استخدام تعبير الحرب الأهلية؟

المفارقة هنا أن استقلال القضاء يفرض أعباء أخلاقية ومبدئية كبيرة على الأجهزة التي تخدم القضاء المستقل وتلعب الدور المبدئي في مرحلة ما قبل توريط القضاء، كالبوليس والنيابة العام.

القضاء المستقل في الأنظمة الديمقراطية المتقدمة محايد، أي لا يتدخل لفرض قوانين أو المبادرة بنظر قضايا، وإنما بالنظر في قضايا حولت له، سواء في النزاعات المدنية، أو تحت اللوائح المدنية في قضايا ذات أبعاد سياسية؛ فمثلا كثير من الذين تعرضوا لتعسف أجهزة الأمن يقاضون الأجهزة ووزارة الداخلية للتعويض المدني لصعوبة توجيه وكيل النيابة تهمة جنائية لرجال الأمن لأنهم يتسترون بعضهم على البعض ويخفون الأدلة، كطبيعة أي مجموعة من الموظفين في مصلحة واحدة. أو تكون القضية جنائية، لكن لا يبادر القضاء أبدا بإثارتها، وإنما يحول وكيل النيابة، أو المدعي العام (تختلف التسميات من بلد لآخر) الأمر للقضاء إذا كان لديه الأدلة الكافية.

وهنا نجد بوليس آيرلندا الشمالية يتريث لسببين؛ الأول، أنه إذا نقل البوليس الأمر للنيابة العامة وقرر وكيل نيابة أن هناك أدلة قوية لتحويل الأمر للقضاء، فإن الجاني يكون قد خرج من القمقم، ويستحيل إعادته لأنه لا يوجد سياسي واحد، بما في ذلك رئيس الحكومة، يجرؤ على التدخل وطلب إسقاط القضية. وهنا نعود إلى إشكالية هل يمكن التضحية بمبدأ حقوق الفرد (الإنسان) في العدالة والتعويض من الجناة (في حالة أولاد السيدة ماكنوفيل) وهو المبدأ الأساسي لكل قوانين الديمقراطيات، في مقابل تجنب تفجر الصراع في الشوارع بين أنصار الحركة الجمهورية، والبوليس.

السبب الثاني، وهو الأهم إذا لم يمثل المستر آدامز أمام القضاء بتهم جنائية يسوقها وكيل النيابة، هي عدم كفاية الأدلة.

أقوى دليل ضد المستر آدامز يقودنا إلى إشكالية ثالثة، تتعلق أيضا بحرية الكلمة والتعبير وحرية البحث الأكاديمي للمؤرخين. باحثون جامعيون أميركيون مستمرون منذ عشرينات القرن الماضي في التأريخ للحركة الجمهورية الآيرلندية، أجروا آلاف الساعات في لقاءات واعترافات عدد من الناشطين في خلايا العنف والإرهاب في الحركة الجمهورية. ويفترض حيادية الأكاديميين ففتح المشاركون قلوبهم ومذكراتهم وملفاتهم. لكن بوليس آيرلندا الشمالية ومكتب التحقيقات الفيدرالية لجأ للقضاء وكسبت الشرطة بعض القضايا (وليس كلها) وإحداها كان اعترافات ناشط راحل في الحركة وجد فيها البوليس أدلة ظرفية اعتبرها تورط آدامز كمشارك في التخطيط لاختطاف السيدة ماكنوفيل.

إشكاليات ليس لها حل واضح، لكن أضعها أمام القراء للأخذ في الاعتبار عند إعادة فتح ملفات الأنظمة السابقة، وما قد يترتب عليها من إشكاليات قد لا تفيد التطور نحو الديمقراطية فحسب، بل قد تقوض المبدأ الذي قصد مثيرو القضية رفع شأنه أصلا.