من شرق السويس ومن غرب العراق

TT

أكثريتكم شباب ولا يذكر تلك المرحلة. نحن شهدناها قرّاء ومواطنين وعاملين في الصحافة اليومية. أقصد أوائل الستينات، وكيف تغير العالم غداة السويس عاما بعد آخر. إن أوجه الشبه بما يحدث اليوم تكاد تكون مفزعة في تطابقها. وأرجو ألا أكون مبالغا بسبب الرغبة في المقارنة. أرجو.

بعد السويس، خرجت بريطانيا من مصر مهزومة سياسيا ومعنويا واقتصاديا. وبدأت شيئا فشيئا تخفض التزاماتها الإمبراطورية: من غانا إلى قواعدها العسكرية في ألمانيا الغربية. ثم بدأت بالانسحاب والانكفاء، معلنة برنامجا محددا للخروج مما سمَّته شرق السويس وغرب السويس. ومقابل تراجع الدول الأوروبية الكبرى، بدأ الاتحاد السوفياتي يمدد نفوذه حيثما استطاع.

الذين في جيلي لا مفر أمامهم من معالم الشبه: أميركا تنسحب وتتراجع وتفقد الكثير من طاقاتها الاقتصادية والعسكرية والمعنوية بعد الخروج من العراق، والتخلي عن ليبيا، والانكفاء في سوريا، والتخوف في أوروبا. وفي المقابل، روسيا تندفع وترفع من درجة المواجهة في الشرق الأوسط وأوروبا.

كل مكان تتلكأ فيه أميركا، تندفع نحوه روسيا. أوباما يخطب عن برنامجه الصحي، وبوتين يطير إلى القرم «المستعاد». أوباما يلقي في نادي الصحافة خطابا محشوا بالنكات، وبوتين يصمت وراء عبوس ليونيد بريجنيف.

وأوروبا خائفة. خُيل لها أن واشنطن في مقعد القيادة في المواجهة، فإذا بها متربعة تنقِّب في أرشيف العقوبات. واليابان خائفة لأن الصين قادمة عبر الجزر، فيما حليفتها الأميركية تتظاهر بعوارض الشيخوخة من سمعيات وبصريات.

مرة أخرى يغيِّر الشرق العربي في حظوظ دولة غربية كبرى. طوال 50 عاما كانت أميركا هي اللاعب الأول، في العلن وفي الخفاء، الآن موسكو هي التي تلغي جنيف، وهي التي تحمي نظام الأسد، وهي التي تقيم حلفا مع إيران، وبوتين هو الذي يعلن من الكرملين، المشير السيسي «رئيسا مقبلا» في مصر.

على الرغم من مجموعة فوارق في الشخصية والسيرة، يشبه باراك أوباما اليوم هارولد ماكميلان 1962: رجل اعتذاري يطلب من حلفائه أن يتفهموا ظروفه، فيما هم يبلغونه أن ظروفهم لا تحتمل التأمل والتمهل. بعد الخروج من «شرق السويس» في العالم العربي بدأت رحلة انحسار نهاية. ويبدو انكفاء أوباما اليوم بلا توقف. الاتحاد السوفياتي الذي أسقطه رونالد ريغان وهو ينكِّت، صار الاتحاد الروسي، فيما أوباما يحشو خطابه بالنكات. مزاج العالم ليس ضاحكا.