حزامة.. ست الحبايب

TT

تصورت، وأنا أبدأ بمطالعة الرواية الجديدة للكاتبة الفلسطينية حزامة حبايب، أنها رسالة من عاشق إلى محبوبة صغيرة. وفي الصفحة العشرين، بعد سرد أخاذ، فهمت أن البوح يأتي على لسان أم تخاطب ابنتها الشابة، بعد أن سافرت البنت الوحيدة للدراسة في الخارج وتركت فراغا في البيت وفجوة مفتوحة في قلب والدتها.

في 322 صفحة، تحاول الأم أن تملأ تلك الفجوة على طريقة «داوها بالتي كانت هي الداء». إنها تفتح كل جروح حياتها وتسحب الخيوط عما اندمل منها وما لم يندمل. من أيام مخيم اللاجئين في الأردن إلى سنوات الإقامة والعمل في الكويت، ثم مغادرتها بعد الغزو العراقي إلى عمان، قبل الاستقرار في دبي. ولعل حزامة، عبر رواياتها السابقة التي كانت تنشرها بنبرة خافتة تبتعد عن صخب الصحافة، كانت الصوت الأكثر تعبيرا عن عالم المخيم، لا سيما النساء اللاتي يخبئن في صدورهن كل شيء، من الدنانير الشحيحة إلى القنابل اليدوية.

رأيت حزامة حبايب يوم جاءت إلى باريس موفدة من مجلة خليجية لحضور مؤتمر صحافي لدار «كريستيان ديور». كانت ضيفة الشرف هي الممثلة شارون ستون، بمناسبة اختيارها سفيرة للدار. ولما حان وقت طرح الأسئلة وقفت صحافية مختصرة القامة، ذات شعر أسود قصير جدا، وقالت للنجمة الأميركية: «هل تعرفين أنك جميلة أكثر من اللازم؟». وبعد أن خرجنا، ضحكنا كثيرا وحزامة تسترجع التداعيات التي خطرت على بالها وهي تجلس وسط كل أولئك السيدات «المدامات» البراقات المعطرات المسرحات المهندمات من قمة الرأس حتى أخمص الكعب. هل يعرفن أن الجالسة بجوارهن قد عادت بها أفكارها إلى أيام مخيم الوحدات وباعة الملابس المستعملة والأمهات اللاتي يفلين رؤوس البنات من الصئبان؟

تكتب في روايتها على لسان البطلة: «وهناك، من نعم الخالق علينا باعة الملابس الرخيصة المتجولون، الذين يطرقون بابنا قبل أبواب الجيران، فتشتري أمي منهم جواربنا وملابسنا الداخلية وبيجاماتنا التي نستهلكها كالخبز. بالتقسيط الممل». ومن النعم، أيضا «الصحة الجيدة والاقتصار في مراجعاتنا الصحية على المستشفيات الحكومية. حتى أسناننا حين تتخلخل تهر وحدها. فإذا تلكأتْ ربط والدي السن المرتخية بخيط في مقبض الباب وصفقه وسط انبهارنا، نحن جمهور المتفرجين، بأفكار أبي الخلاقة. كما لم تتعد العمليات الجراحية التي أجريت لنا في المشافي المجانية استئصال الزائدة الدودية لثلاثة منا، واللوزتين لاثنين، واللحمية لأربعة، والفتق لأبي والبواسير أيضا، إلى جانب ولادات أمي الثماني وعمليتي إجهاض رحمتانا من فمين زائدين».

كان الآباء يحبون أن يطلقوا على بناتهم أسماء قتالية: نضال وكفاح وفداء وانتصار وتحرير. أسماء توحي بأن حاملاتها من عتاولة الرجال، وكأن الأنوثة مؤجلة إلى ما بعد العودة. إن الشخصية الرئيسة في الرواية تدعى جهاد. وهي قد عانت من التباسات اسمها، فلم تلتزم التقليد الثوري وسمت ابنتها «ملكة». وجدت نفسها محكومة بزوج دخل حياتها بالخطأ وبأمومة لم تكن راغبة فيها، لكن طفلتها صارت أوكسجين حياتها.

«في فصول التردي وعتمة الأيام، أنرت يا روحي روحي. لقد امتشقتني، طوقتني، سريت في دمي. والغريب أني بك ومعك أصبحت أخف. وإذ كبلني عمرك فإنني بطريقة ما تحررت». هكذا تتحدث الأم إلى ابنتها وكأنها تخاطب ذاتا بلغت من النضوج ما يسمح لهما بتبادل موقع الأمومة. فجهاد، رغم تشميرها المبكر عن ساعديها، تبدو طفلة مزعزعة الروح، تستمد مشروعية وجودها من ملكة، البنت التي تطالع كتبا تفوق عمرها وتمتلك من الحكمة ما يجعلها، بشكل ما، ست الحبايب الحانية على أمها.

حين تعود جهاد من دبي لزيارة أهلها، تصعد إلى السطح لتدخن سيجارة مع أبيها. تجلس قبالته على صفيحة قديمة، حانية ظهرها مثله، مثل رجل عاش لاجئا وسيموت من دون وطن. «انسحب أبي من صباحاتنا ومن مساءاتنا وقصرت يده عن موائدنا الأرضية وارتفعت عن خبزنا وشاينا وقهوتنا وضجيجنا. اختلى بالصمت أكثر مما عانق الكلام».

وإذ تزيح بطلة الرواية الغطاء عن بئر ذاكرتها، فإنها لا تحكي قصتها فحسب، بل قصة أجيال لم تعرف سوى لعنة اللجوء. من خرج من أرضه ذهب إلى المخيم. ومن ترك المخيم سافر ليعمل في الكويت. ومن طردته حرب الكويت عاد إلى المخيم أو ما يشبهه. أما فلسطين فتبقى نشيدا في المدارس.

عنوان الرواية «قبل أن تنام الملكة». وقد صدرت عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر.