غارسيا ماركيز وقصة عزلة الديكتاتور

TT

يملك غارسيا ماركيز تفسيرا بارعا لميلاد القصة. يعتقد ماركيز أنه إذا كانت القصة تحمل بطاقة هوية، فلا بد أن توضح هذه البطاقة يوم ومكان ميلادها.

«نشأت القصة في اليوم الذي وصل فيه يونس إلى بيته وقال لزوجته إنه تأخر ثلاثة أيام، لأن حوتا ابتلعه».

كان يونس بمفرده؛ جاء في القرآن الكريم: «فنادى في الظلمات». يقول الزمخشري في تفسيره للقرآن «الكشاف»: «وقيل: ظلمات بطن الحوت والبحر والليل».

أود أن أضيف ظلمة رابعة إلى تفسير الزمخشري: كان يونس غائما في ظلمة النفس. وهي أشد الظلمات سوادا. عاقبه الله على تركه قومه! وكان هناك صراع في عقل يونس؛ ظن أن الله خلق البشر لأجل يونس، ولكن ذلك ليس حقيقيا، بل خلق الله رسله لأجل البشر. في اعتقادي أن من أهم الأخطاء التي تشوب الخطاب الديني أن هناك هيمنة من بعض رجال الدين في احتكار المعرفة الدينية ظانين أنهم أكثر جدارة منا جميعا، وأنهم مصطفون وبقية البشر في أي ديانة يجب أن يطيعوهم.

عندما وجد يونس أن الله لم يعاقب قومه، شعر بالغضب. وبالتدريج، بدأت المسافة التي تفصل بينه وبين قومه تكبر، فتركهم. لذلك، أمر الله الحوت بابتلاع يونس!

نسي النبي يونس ضعفه وقوة الله المطلقة، وظن أنه يستطيع الهرب من الله. ظن أن في إمكانه الذهاب إلى مكان آخر بدلا من نينوى.

وظل في هذه الظلمات لمدة ثلاثة أيام وليال، ولكن من الصعب إحصاء مثل هذه العزلة بالأيام والليالي. كما نعلم، كان القذافي محاطا بالشباب الليبي قرب سرت لعدة دقائق قبل أن يلقى حتفه المأسوي. كانت مجرد دقيقتين، ولكن بالنسبة له كانت أطول من جميع أعوام حكمه لليبيا. في بعض الأحيان، تصبح الثانية أطول من إحدى ليالي الشتاء الطويلة.

كانت عزلة النبي يونس تقوم على أساسين؛ عدم الإحاطة والذاتية. لذلك، أشار الله إلى النبي محمد في كتابه بألا يقع في إشكالية «صاحب الحوت».

في ماكوندو، عندما ينسى السكان كل شيء، يعلقون لافتة عند مدخل المدينة مكتوبا عليها: «الله موجود!».

في روايات ماركيز، في «مائة عام من العزلة»، و«الجنرال في متاهاته»، و«خريف البطريرك»، نستطيع أن نرى عزلة الحاكم الديكتاتور، وعزلة الإنسان أيضا. العزلة الأولى كوميدية - مأسوية، والثانية تتسم بالمأسوية العميقة. في مقال نشر أخيرا، كتب الزميل سمير عطا الله جملة لا يمكن نسيانها عن العقيد القذافي: «الأخ معمر طبع على بطاقته كل الألقاب الاشتراكية والجمهورية والإمبراطورية وجلس يقشر بذر (لب) البطيخ، ويعلق منصات المشانق في حرم الجامعة» («الشرق الأوسط»، 30 أبريل «نيسان»).

في حوار أجراه معه بيلينو مندوزا، أشار ماركيز إلى أفكار وأفعال بعض الحكام المستبدين في أميركا اللاتينية. على سبيل المثال، فرنسوا دوفالييه في هايتي الذي أمر بإعدام جميع الكلاب السوداء في البلاد لأن واحدا من أعدائه حول ذاته إلى كلب أسود خوفا من الاعتقال والقتل!

في السلفادور، أمر هيرناندز مارتينيز ذات مرة بتغطية جميع أضواء الشوارع في البلاد بالورق الأحمر لمكافحة مرض الحصبة الذي كان متفشيا.

نذكر عندما كان العقيد القذافي يذهب إلى المؤتمرات الإقليمية أو الدولية يحضر معه جمله على متن طائرة خاصة! ويظل مقيما بخيمة خضراء في أحد الميادين.

تحدث ماركيز عن مقابلته مع الجنرال عمر توريخوس، الذي قال لماركيز قبل وفاته بثمان وأربعين ساعة: «(خريف البطريرك) هو أفضل أعمالك، نحن جميعا مثلما وصفتنا تماما».

يوجد وجه آخر لعزلة الديكتاتور. لقد وصف ماركيز الحكام المستبدين الثوريين، وحياتهم وأفكارهم وكيف تغيروا خطوة وراء أخرى تحت تأثير السلطة، وفي النهاية أصبحوا مثل أعدائهم القدامى. هذه هي تراجيديا السلطة.

في الفصل الثامن من رواية «مائة عام من العزلة»، دار حوار غريب بين الجنرال مونكادو والكولونيل أورليانو.

قال الجنرال مونكادو: «.... لكن، ما يقلقني ليس إعدامك لي، لأن هذا بالنسبة لأناس مثلنا أمر طبيعي».

واستطرد يقول: «ما يقلقني هو أنك بعد كل أحقادك علينا ومحاربتنا بكل هذا العنف، قد انتهيت إلى صيرورتك أسوأ منا... ولم يعد في الحياة شيء يوازي هذه الوضاعة».

اعتقد الكولونيل أورليانو أن الصديق الحقيقي صديق ميت!

هذا هو السبب الرئيس وراء عزلة الثورة وقائد الثورة. هناك الكثير من النماذج في التاريخ. في تاريخ إيران، قتل عدد من الملوك أبناءهم، بل وأمهاتهم وآباءهم. وهناك أيضا الثورتان الفرنسية والروسية، وكثير من الأمثلة الأخرى. قبل إعدام دانتون بأمر من روبسبيير، صاح قائلا في كلماته الأخيرة: «ها أنت يا روبسبيير تحولت إلى ديكتاتور!». كانت تلك إشارة واضحة على أن روبسبيير وحده. تحول الحلم إلى فوضى. هذه هي العزلة الحقيقية.

لماذا هرب غارسيا ماركيز وأسرته إلى المكسيك؟ ماذا الذي حدث في كولومبيا؟ «في يوم الاثنين 26 يونيو (حزيران) عام 1961، في القطار الذي يقل عائلة غارسيا ماركيز إلى مكسيكو سيتي... وصلنا ذات مساء نحمل آخر عشرين دولارا كانت في حوزتنا ولا شيء بالنسبة للمستقبل!» (غابرييل غارسيا ماركيز، غيرالد مارتن، ص 271).

الآن وبعد مرور 53 سنة، يقول رئيس كولومبيا: «إن غارسيا ماركيز جزء من هويتنا!»، أين الحكام المستبدون في الجبهة الوطنية، التي كانت تحكم كولومبيا في تلك الأعوام، وأجبرت غارسيا ماركيز على الرحيل عن وطنه؟