حلب.. تدمير ممنهج

TT

التدمير الممنهج والمتصاعد الحاصل من قبل نظام الأسد بحق مدينة حلب، والذي أخذ أشكالا مختلفة ومرعبة، وصفته صحيفة الـ«غارديان» الإنجليزية العريقة بأنه الأسوأ في تاريخ البشرية، وأنه فاق ما حصل لمدن دمرت في الحرب العالمية الثانية مثل كل من هيروشيما وناجازاكي في اليابان أو درسزدن في ألمانيا.

ما حصل في حلب كان ولا يزال أعنف وأكثر وحشية من كل ما سبق. يتذكر دارسو التاريخ ما فعله هولاكو وجيشه من المغول بحق المدينة العظيمة بغداد حينما غزاها بجيشه المجرم ودمر مبانيها وأغرق كتب مكتبتها الكبرى والأسطورية في وقتها في دجلة والفرات حتى تحول لونهما إلى الأسود بسبب الحبر الخارج من الكتب، كما تقول الروايات المختلفة عن هذه الحادثة العظيمة.

واليوم حلب تشهد مأساة أشد وطأة وأخطر، فبالإضافة لمسلسل القصف المستمر والمتواصل بالبراميل المتفجرة الملقاة من الطائرات الحربية لنظام الأسد على سكان المدينة في معظم أحيائها، وعلى المباني كافة في هذه الأحياء التي تحولت إلى أكوام من الحجارة تغطي أرتالا من جثث الضحايا.. إنه الانتقام من حلب.. الانتقام الممنهج من حلب.

حافظ الأسد كان على درجة عالية من العداء لحلب كما كان هذا الأمر معروفا لأهلها جميعا، فهو لم يغفر لحلب أبدا أنها كانت موضع أول حادثة انتقام وقتل لجنود نظامه في الكلية العسكرية، وبدأ من بعدها العقاب الجماعي لحلب المدينة وأهلها، فتم حرمانهم جميعا من كل ملامح وأوجه التنمية بأشكالها كافة، فلم تحظ حلب لا بزيارة من كبار مسؤولي الدولة، ولا من الرئيس بطبيعة الحال، وتدهور الوضع الاقتصادي فيها بشكل مذهل، وباتت بنيتها الأساسية في حالة تهرؤ واضح، وكذلك الأمر بالنسبة للقطاع الكهربائي، والمنشآت الصحية، والتدمير جراء هذا الإهمال كان مقصودا.

جاء بشار الأسد إلى الحكم وحاول فتح صفحة جديدة مع المدينة، خصوصا أنه صاهرها بطريقة غير مباشرة، فوالدة زوجته أسماء الأخرس سيدة حلبية، وكان يزور المدينة بشكل شبه متواصل، وقام بتقديم طبقة «جديدة» من رجال الأعمال غير المعروفين في السابق، ومكنهم من تسهيلات كبيرة جعلتهم يتقدمون في هذه المدينة الاقتصادية العريقة بإقامتهم مشاريع «مريبة» لأجل توظيف أكبر قدر من الناس وشراء ولائهم بشكل قطعي ومطلق، وقد تحقق هذا الولاء الزائف، وتم الحصول على «المحبة» المنشودة، ولكن حلب لها عمق تراثي وكبرياء بعمر قلعتها وأكثر، وبشموخ حجرها وأكبر.. حلب المدينة التي تميزت بجذور التميز وتفردها المستمر بهويتها المستقلة دوما.. فالحلبي يعتز بأنه «حلبي أولا»، وحجارته وفستقه وكبابه وقدوده وصابونه وحلوياته، تؤكد تميز هويته المستمر، ولذلك «تمرد» بقوة على النظام، بحسب تعريف إعلام الأسد، ولكنه في حقيقة الأمر ثار ثورة الكبار وخرج كالمارد من القمقم، ولذلك جاء الانتقام الأسدي هائلا يشمل التجويع بمنع الأكل والغذاء، والآن قطع المياه تماما عن المدينة بشكل متعمد، والاستمرار في القتل العشوائي لكل من هُم في الداخل، وهدم البيوت، وحرق كل ما له قيمة تراثية مثل سوق المدينة التاريخي، وضرب القلعة وتفجير كل ما حولها، وتدمير المساجد بكل أشكالها، لا فرق في ذلك بين ما هو مهم منها وأثري، وما هو بسيط وجديد. تم القضاء على البنية التحتية الاقتصادية للمدينة، وضرب منشآتها، ومدارسها، ومستشفياتها، وفنادقها، ومصانعها، ومحلات البيع والتجارة.. كان على الكل أن يدفع ثمن خروجه عن الولاء الأعمى لنظام الأسد. الكل في حلب سيدفع الفاتورة بأضعاف مضاعفة، هذا ما تم الاتفاق عليه، خصوصا أن من يديرون معركة الأسد الآن هم من بقايا دائرة والده، ويقومون اليوم بقتل حلب تماما كما قاموا بجريمة حماه في الثمانينات من القرن الميلادي الماضي.

المجتمع الدولي يعطي للأسد رخصة مفتوحة للقضاء على حلب وعلى معارضيه.. بات الأمر واضحا، فلا يمكن أن يكون ثمن دعم الثورة هو الخلاص من حارس أمين للحدود مع إسرائيل التي باتت أهدى من منتجعات هاواي والكاريبي! إنها مسألة أولويات. باسم القضاء على الإرهاب يمنح بشار الأسد رخصة القضاء على مدينة بأكملها وقتل وتجويع وتعطيش شعبها.. إنها النازية الأسدية الجديدة، ولكن هذه المرة برعاية وحماية ورضا دولي لا يمكن إنكاره.

حلب تستغيث ولا مغيث لها.. مدينة عظيمة جديدة تموت وتسقط برعاية إجرامية طائفية.

في الدم والإجرام الذي يحصل في حق حلب، تتعطل لغة الكلام، فبشار الأسد دخل التاريخ الأسود كما دخله من قبل هولاكو ذات يوم في بغداد.