غزاهم.. وليته اقتدى بهم

TT

كل ما حمله مدبرو غزو الكويت من شعارات كانت كاذبة، فكل شيء وضعت مبرراته الجوفاء وفق منطلقات الطمع لا أكثر، وها هي الكويت اليوم تضرب مثلا رائعا بالتطور في كل المجالات، بما في ذلك عدالة اجتماعية تستند إلى أرفع القيم الإنسانية، وحققت تطورا لافتا في مجالات الحياة، وتبنت القيادة الكويتية نهجا أبويا في تعاملها مع الجميع، وفي ظلها لم يسجل وجود معارض سياسي واحد منفي أو هارب أو مبعد خارج بلاده، ولا وجود لسجناء الرأي، رغم قسوة بعض المعارضين وتحاملهم غير المبرر.

أثناء غزو صدام للكويت، حرص المعارضون الكويتيون على رفع صور الأمير، وكل من تحدثت معهم قيادة الاحتلال من أجل التعاون كانوا يصرون على أنهم غير مستعدين لقبول حاكم غير عائلة آل صباح، وهو وفاء وإيمان خلدهما التاريخ، وأذهلت المقاومة الكويتية فروع الأمن العراقي، ولم يكن ممكنا تجنيد جاسوس كويتي واحد تتطلب الإشارة إليه، وحتى الأطفال، كانوا يكتبون على الجدران - بلا توجيه - شعارات منددة بالغزو ومشيدة بعائلة آل صباح، وضحى قسم منهم بحياته إيمانا بالمقاومة.

وبعد 23 عاما من يوم تحرير الكويت، تمكنت الدولة من بناء نحو 27 مدينة عصرية، وعملت الحكومة بتوجيه مباشر من الأمير على تطبيق نظام لتوفير الغذاء للمواطنين من أفضل الأنواع وأجودها بأسعار رمزية، ولا يزال النظام مستمرا حتى الآن، وتأمين الكهرباء والماء بسعر رمزي للغاية، فضلا عن الرواتب العالية والدخل المرتفع للفرد. وجرى تطوير المستشفيات وفق تخطيط سليم يتماشى مع الزيادة السكانية، إلى جانب الرعاية في مجال العلاج في أرقى المستشفيات البريطانية وغيرها.

وكان الجميع ينتظر دورا يقوده أمير البلاد الشيخ صباح الأحمد الصباح، لتنقية الأجواء العربية، وهو ما حدث فعلا في أكثر من مكان وحالة، وبفضله قطعت العلاقات الكويتية – العراقية شوطا مهما رغم جراح الماضي وذاكرة مآسي الغزو، ولم يكن للكويت إصبع في أي حالة توتر عربي أو تدخل في شؤون الغير، خلاف أنظمة مختلفة تبنت نهجا مخلا بشروط الأخوة والصداقة. وطيلة السنوات التي أعقبت سقوط نظام صدام بقي النهج الكويتي مبنيا على التعاطي الإيجابي، بعيدا عن مفاهيم الموروث من مصطلحات الثأر والانتقام، وحتى في مرحلة ما قبل عام 2003 بقيت نظرة القيادة الكويتية متساوية تجاه العراقيين بمختلف شرائحهم.

في «التراث الثوري الحزبي» تداولنا كثيرا ما يوصف بـ«الرجعية»، خصوصا الخليجية، وإذا كان بناء المدن وتأمين الخدمات وضمان حرية الرأي والسياسة المتوازنة الهادئة رجعية «فليتنا كنا رجعيين»، وليتنا تعلمنا دروس الرجعية بدل ثقافة شعارات زائفة وسياسة غوغائية قادت بلاد ما بين النهرين إلى الدمار، وليت النظام العراقي كان أميريا وليس حزبيا «ثورجيا»، وأدعو السياسيين والمثقفين العراقيين إلى دراسة التجربة الكويتية في مرحلة تجاوز المعضلات، وفي نظرة المواطنين تجاه الحكم.

لقد أثبت الكويتيون أنهم شعب حي ومثقف، وما كان هذا ليتحقق لو لم يتلمس الناس عدل القيادة وحرصها الأكيد على حياته وأمنه وتقدمه. وأكثر ما يثير انتباهي - وقد تابعت الوضع الكويتي كثيرا وكتبت في صحفه في سنين سابقة كثيرا - الصبر الحكومي في التعاطي مع أصوات غير مبررة ترتفع بين فترة وأخرى، وما أكثر المرات التي قررت الحكومات الاستقالة أمام مطالب برلمانية، واتخذ الأمير موقف الأب الذي لا يفرق بين أبنائه. وهذه دروس تحتاج إليها دول عربية عدة والتوقف عندها في التعامل ولتصميم العلاقة بين الحكم والشعب وبالعكس. وقبل أيام التقيت صديقا قديما كان قائد دبابات في حرب تحرير الكويت ونائبا فاعلا صعبا في البرلمان، وأعجبني تمسكه وإعجابه وإيمانه بقيادة الأمير، مع أنه مخالف لمعظم الآخرين.

وإذ أسطر هذه الملاحظات، يفترض بالدول والأنظمة التي اختل أمنها واضطربت العلاقات بين مقوماتها، الاستفادة من التجربة الكويتية، وليت صدام استفاد من نهج الأمير وسياسته المناصرة لكل القضايا العادلة، بدل نكران الجميل وتبني قراءات ومغامرات كارثية، وليته تريث قليلا وسأل الكويتيين عن الكيفية التي سيتصرفون بموجبها لو قرر غزوهم! وأتمنى على العراقيين ممن كانوا مؤمنين بالغزو - على قلتهم - مراجعة حساباتهم، فقد تبعثروا وتشردوا - للأسف - وأصبح كل واحد منهم «تحت نجمة» طبقا للمقولة العراقية، وما أحلى مراجعة الذات.