السياسات العامة و«مواطن النت» في العالم العربي

TT

شهدت المنطقة العربية في السنوات القليلة الماضية تحولات جوهرية في بيئة الاتصال بين صناع السياسات العامة والرأي العام المحلي بفضل الإنترنت التي وصفها السفير البريطاني لدى لبنان توم فليتشر بقوله انها: «قد تكون اقوى سلاح في المنطقة»، وبعد ذلك منصات التواصل الاجتماعي؛ مما أدى إلى بروز ظاهرة جديدة ومهمة في العالم العربي اسمها (مواطن النت) Netizen التي تشير هنا للفرد النشط في مجال استخدام الإنترنت ووسائط التواصل الاجتماعي للمشاركة والتأثير في قضايا الشأن العام؛ مما يثير التساؤل عن سمات هذا (المواطن)، وسبل التواصل الفعال معه .

تشير سلسة تقرير الإعلام الاجتماعي العربي إلى أن عدد مستخدمي الإنترنت في المنطقة العربية تجاوز 125 مليون مستخدم في الربع الأول لعام 2013، منهم أكثر من 53 مليون مستخدم نشط لوسائط التواصل الاجتماعي، وإن الإنترنت ووسائط التواصل الاجتماعي هما مصدر المعلومات الرئيس لـ 64% من عينة الدراسة في العالم العربي مقابل 28% فقط لوسائل الاعلام التقليدية.

ويكشف التقرير السنوي لهيئة الاتصالات وتقنية المعلومات السعودية (2013) أن عدد مستخدمي الإنترنت في السعودية بلغ 16.4 مليون مستخدم في العام مقارنة بـ 15.8 مليون مستخدم في عام 2012؛ وذلك بسبب أربعة عوامل رئيسية؛ الأول تحسن البنية التحتية للإنترنت، العامل الثاني نمو عدد الاشتراكات في خدمة النطاق العريض عبر الهواتف الجوالة إلى 14,27 مليون اشتراك مقارنة بـ 12,2 مليون تقريبا في عام 2012، الثالث انتشار الهواتف الجوالة التي بلغت نسبتها 169,7 لكل مائة نسمة، والعامل الرابع هو توسع حجم الارتباط بوسائط التواصل الاجتماعي.

وقد أدى هذا التغير التحولي في بيئة الاتصال السياسي في المنطقة العربية إلى ظهور وتنامي أهمية «مواطن النت» الذي يتسم بعدة خصائص أهمها: السمة الأولى أنه من شريحة الشباب المهتمة بالشأن العام، ففي السعودية - على سبيل المثال - يبلغ متوسط أعمار مستخدمي تويتر النشطين 24,2 عام طبقا لدراسة «بير ريتش» (2013). والسمة الثانية هي الإحساس بالقدرة على التعبير عن ذاته وصنع الفارق، والوصول إلى الأهداف التي يتطلع إليها؛ مما يجعل من الصعب على صناع السياسة العامة تجاهل هذا الإحساس الجديد والعميق لدى هذه الشريحة المهمة.

أما السمة الثالثة لمواطن النت فهي عزوفه عن أدوات الاتصال الأحادية الاتجاه والمعنى الخاضعة للسيطرة الحكومية مما أدى الى إضعاف تأثير الإعلام التقليدي الحكومي، وتعزيز انتشار وتأثير الإعلام الاجتماعي بينهم. وبالتالي تغيير دور الجمهور في العملية الاتصالية السياسية من متلقٍ سلبي إلى منتج نشط للمحتوى الإعلامي، مما أدى بدوره إلى ظهور ظاهرة «الشلالات المعلوماتية»، التي يقصد بها تدفق المعلومات بشكل كثيف في بيئة تفاعلية من صناع الرأي في الانترنت ووسائط التواصل الاجتماعي إلى متابعيهم، والتي يمكن أن تساهم في خلق «وعي مشترك» بشأن قضايا السياسات العامة وبالتالي في إنتاج ما يعرف بـ«معضلة النزعة المحافظة» التي تعني ان على صناع السياسات العامة مراعاة أوجه الاختلاف الحادة بين نظرتهم للأحداث ونظرة مواطن النت لتلك الأحداث.

والسمة الرابعة هي أنه يريد الحوار المتوازن من المسؤولين عن صياغة السياسات العامة وليس الإصغاء فقط لهم. فقد أضحى يتوقع أن يتحدث صناع السياسات العامة «معه» وليس «إليه»، وأن ينخرطوا في حوار حقيقي ومستمر معه. أم السمة الخامسة فهي أنه يتثبت مما يصله من معلومات وآراء، مما يتطلب من الأجهزة الحكومية في العالم العربي قدرا أكبر من الانفتاح والشفافية عبر تمكين المواطن من الوصول للمعلومات بسهولة بحيث يعرف، عندما يريد، ما يحدث داخل مطابخ السياسات العامة. كما ينبغي أن تتسم عملية صناعة السياسة العامة بالروح التعاونية بحيث يصبح مواطن النت جزءا أصيلا من عملية صنع السياسات العامة، وذلك عبر توسيع دائرة المشاركة في عملية صنع تلك السياسات بحيث يشارك بفاعلية في عملية صناعة القرار عن طريق المساهمة في مدخلات السياسة العامة واقتراح البدائل، وتضمين ما يقدمه من مدخلات في عملية صياغة السياسات مما يؤدي إلى توسيع دائرة المشاركين في صنع تلك السياسات، ووضع سياسات عامة أفضل وزيادة ثقة المواطنين في مخرجاتها.

وعلى مستوى قنوات الاتصال، ينبغي على صناع السياسات العامة تخطي وسائل الإعلام التقليدية عبر إيجاد منصات تفاعلية مناسبة لمواطن النت في بلدانهم للحوار بشكل مستمر بينهم وبين مواطني النت، الأمر الذي يعزز إحساسه بأنه شريك في العملية.

أخيرا ينبغي أن يتسم مضمون التواصل مع مواطن النت بقدر كبير من المصداقية والاحترام لوجهات نظره. إن أدق توصيف لرؤية مواطن النت للمعلومات الحكومية هو «ثق ولكن تثبت»، فمواطن النت ينحو غالبا إلى التثبت من المعلومات الواردة من المسؤولين، ولديه القدرة على فحص تلك المعلومات بفضل الكم الهائل من مصادر المعلومات التي أتاحتها ثورة الاتصالات والمعلومات. صفوة القول هي أن ظاهرة «مواطن النت» أدت إلى تغيرات كبيرة في قواعد العلاقة بين المسؤولين عن صناعة السياسات العامة في العالم العربي والرأي العام المحلي، وهذه التغيرات لا يمكن التعامل معها بالأساليب القديمة؛ مما يتطلب من صناع السياسات العامة قدرا أكبر من القدرة والرغبة في التكيف مع الواقع الجديد، أو المخاطرة بخسارة شريحة ذات أهمية سياسية متنامية.

* أكاديمي سعودي متخصص في الإعلام السياسي بمعهد الدراسات الدبلوماسية في الرياض