عن الخليج.. ونهاية الشعارات القديمة

TT

بينما كنت أتجوّل مع أصدقاء بين دور النشر في معرض «أبوظبي» للكتاب، يستوقفنا أديب، ويتحدّث عن إحدى دور النشر لصديقه العراقي، والتي تعاني صعوبات في المشاركة ببعض المعارض الخليجية، ثم ابتدرنا بسؤال: «إذا لم تشارك في الخليج.. أين تشارك؟».

هذه العبارة تبيّن مستوى التطور الذي شقّته منطقة الخليج على مستوى التأليف والكتابة والرواية. في معارض الكويت والشارقة ومسقط والرياض وأبوظبي والمنامة نجاح باهر لسوق الكتاب، نجاح يتطوّر تبعًا للشغف الذي يهيمن على المجتمع الخليجي المشغول دائمًا بأسئلته المتجددة، لقد أيقظت الأحداث المجتمعات منذ الثورة الإيرانية 1979، حتى حرب العراق وإيران 1981، وصولًا إلى غزو الكويت 1990، ومن ثم ضربة الإرهاب في 2001، وبعد أن نشبت الاضطرابات في 2010 أصبحت الأسئلة تتشعّب بين الدين والفكر واللغة والمعنى والوجود، وهذا ينبئ عن مجتمعاتٍ شبّت عن الطوق، وأخذت تتلمس بأصابعها سبل الخلاص.

في السعودية منذ 1931 وحتى 1990 لم تُطبع إلا 30 رواية، بينما الآن في السوق أكثر من ألف رواية لشباب وفتيات في سنّ مبكرة، يكتبون تجاربهم، ويومياتهم وحياتهم، ومن حقّ الجميع أن يؤلف، وأن يكتب ما اختبره في حياته، والبضاعة الجيدة هي التي تبقى.. «فأما الزبد فيذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض». حين تتحدث عن مجتمعات لديها تابوهات، فإن التمرّد الفكري والكتابي ليس عيبًا حين يوثّق ضمن تجربة، ولكن ضمن معايير التأليف الأساسية، على النحو الذي يطرح في المجتمعات الأخرى؛ إذ يرتبط التأليف بالتجربة وليس بالموضوع الأكاديمي والمعرفي فقط. من هنا تكون هذه الموجة «علامة» على مخاض ضخم على المستويين الفكري والاجتماعي للبحث عن آفاق الحداثة والتطور والتنمية. وبالبحث عن الاهتمامات التي تشغل الشباب الخليجيين لا نجدها اهتماماتٍ سياسية، بل فكرية وأدبية ومعرفية وفلسفية، أقول هذا عن تجربة في معارض الكتب التي أشارك فيها، وفي الأندية الأدبية السعودية التي أغشاها، وبمتابعةٍ للحركة الروائية وللتأليف المطروح يوميًا على أرفف المكتبات.

كان لمعرض «أبوظبي» للكتاب وفعاليات جائزة الشيخ زايد والحضور الخليجي الضخم، أكبر الأثر في الإيضاح للمجتمعات الأخرى، أن الخليج ليس «بناياتٍ شاهقة»، وإنما حصن ضخم استطاع أن يواجه التحديات الكبرى التي أحاطته منذ أربع سنوات، وتغلّب على الخلايا الأصولية، وضرب التطرف والقبليّة، وحاكم المجرمين، ومن ثم استأنف النشأة ليضع لبناتٍ على بناء معناه الثقافي. تعيش هذه الأرض على المدنية والتيارات الحداثية المعاصرة، مودّعة أزمان الاتجاهات الخشبية، ومفاهيم «الكمون، والثورة، والنضال، والمقاومة»، وسواها من المعاني التي أكل عليها الدهر وشرب.

لكل زمانٍ عواصمه الثقافية، ما عدّه البعض هامشًا في السبعينات الميلادية بات اليوم مركزًا، في شهرٍ واحد على سبيل المثال تتمكن الإمارات من احتضان ثلاثة أحداثٍ ضخمة: «جائزة الشيخ زايد، احتفالات بفوز مانشستر سيتي، بدء منتدى الإعلام العربي»، هذه الأحداث تبرهن على مركزية الخليج في الفعل الثقافي والاجتماعي والرياضي، متجاوزين اللغات القديمة، والقصائد الطويلة من مناضلٍ بنظارته المقعّرة، إنه زمن آخر، وعصر آخر، وقرنٌ آخر.

وبينما تُشنّ هذه الأيام حملات حول موضوع «الاستقرار» من قبل بعض الكتاب ذوي الاتجاهات اليسارية من مدمني المسيرات والاحتجاجات يصمد الخليج في وجه العاتي من الرياح، ويحاول أن يحفظ وحدته وكيانه من التآمر والحيل، ويواجه العالم بالكتاب والفكرة والتعلّم والابتعاث، لم يعد هناك وقت للمهاترات التي سادت ثم بادت لدى المثقفين في الستينات والسبعينات المتأثرين بالمسيرات الاحتجاجية في فرنسا وغيرها، إنما الآن زمنٌ آخر؛ إذ تراهن الدول على التعليم، وتشجّع الجدل الفكري، وتحرس الاستقرار من كل يدٍ تحاول أن تعبث به. هذه هي حركة الخليج في شهر مايو (أيار) فقط، ماذا لو فتحنا إنجازات السنة، أو السنوات العشر الماضية؟!

* كاتب وباحث سعودي