من أجل حل سياسي وسط

TT

ما تزال الأزمة السياسية في البحرين تراوح مكانها، نتيجة إصرار المعارضة على مواقفها من دون أن تبدو في الأفق بوارق للحل، رغم الجهود الكبيرة والتنازلات المتتالية من قبل السلطة، حيث يبدو أن التخندق السياسي - الطائفي هو ما يمنع التحرك نحو الحل الوسط السياسي، كما أن التعطيل للحل السياسي يعود في جانب منه إلى اعتقاد المعارضة أن الحل التوافقي سوف يكون بطعم الهزيمة، خصوصا بالنسبة للذين رفعوا سقوف المطالب، فصارت من الارتفاع بمكان تصعب معه الاستجابة لها من دون أن يكون ذلك مرادفا لهزيمة سياسية، فالتورط في رفع سقف المطالب السياسية، والإيحاء بأن «النصر قريب»، قد أدخلا هذه المعارضة في ورطة، جعلت من الصعب معها التحرك نحو منطقة الوسط، لسبب بسيط، وهو أن هذه المنطقة كانت دائما موجودة ومطروحة ولم يكن هنالك من داع لكل هذه التضحيات والخسائر ولهذه الفوضى العارمة للوصول إليها، ومن ثم فإن القبول بالحل الوسط السياسي سوف يترجمه البعض على أنه هزيمة للمعارضة..

وأمام هذا المأزق، لا مناص من إعادة تأهيل المعارضة لمساعدتها على تجاوز أنفسها وطروحاتها وشعاراتها، ومراجعة أخطائها تمهيدا للمصالحة مع الذات ومع المجتمع والتاريخ في الوقت ذاته..

عمليا، فإن المطلب الأساسي في تعزيز الإصلاح السياسي حوله إجماع بين مختلف مكونات المجتمع السياسي، والاختلاف في التفاصيل وترتيب الأولويات، ولكن المشكلة بدأت في فبراير (شباط) 2011، برفع المعارضة سقف المطالب إلى (ضرورة التغيير السلطوي) ويبدأ الخلاف بينها بعد ذلك حول التكتيكات، بين من يرى ضرورة مواصلة «النضال» إلى آخر رمق لتحقيق أهداف الثورة على النمط الخميني، ومن يرى القبول بالمرحلية في تحقيق الهدف نفسه، من خلال التغيير الجزئي للسلطة في مرحلة أولى، بما يتيح التغيير في مرحلة لاحقة بسهولة أكبر، من خلال التعاون والتنسيق مع القوى الخارجية والإقليمية الحليفة، وبمعاونتها السياسية واللوجيستية والإعلامية تتم ترجمة ذلك من خلال المطالبة بسلطة تشريعية كاملة وتحويل مجلس الشورى إلى مجرد مجلس استشاري، ثم تشكيل السلطة التنفيذية بناء على نتائج الانتخابات، ولعل هذا التكتيك المكشوف، هو ما يجعل السلطة لا تثق كثيرا بطروحات المعارضة، فبقدر ما الحكومة راغبة بالفعل في الإصلاح (لأنه في مصلحتها وفي مصلحة المجتمع ومصلحة الاستقرار والنماء)، فإنها ترى ضرورة أن تسير الأمور وفق منطق تدريجي، ومن خلال توافق وطني يراعي مصلحة الجميع، أي بإدخال بقية مكونات المجتمع السياسي والمدني في المعادلة بما يمنع تغول المعارضة المتطرفة، ويدفعها واقعيا نحو الحل الوسط السياسي، بالقبول بالتحول التدريجي نحو حل سياسي توافقي، بما في ذلك انتخاب سلطة تشريعية كاملة الصلاحيات في مجال التشريع، مرورا في البداية بتعزيز صلاحيات مجلس النواب والتقليل من صلاحيات مجلس الشورى، وصولا بعد ذلك إلى جعل هذه الصلاحيات محصورة في تقديم القراءة الأولى لمشروعات القوانين من وجهة نظر استشارية.

وماذا عن الدور المطلوب من السلطة للدفع نحو حل الوسط السياسي الذي يلتقي عنده أغلب مكونات المجتمع السياسي في نوع من الوفاق والمصالحة تمهيدا لطي ملف الأزمة؟

من الواضح أن السلطة قد حاولت في أكثر من مناسبة طرحها الحضاري من خلال الدعوة إلى الحوار المفتوح من دون شروط في مواجهة الأزمة، وفي ثلاث مناسبات متتالية من أجل حل وسط سياسي مقبول يكون متقدما بالنسبة للوضع القائم، ولا يكون متطابقا مع مطالب المعارضة بالكامل، بحيث يراعي مصالح جميع الأطراف. هذا الحوار الذي رأته المعارضة مجرد مناورة من السلطة لربح الوقت، رفضته أو غادرته بعد فترة قصيرة، لإدراكها أن حل الوسط السياسي يتطلب وفاقا سياسيا، هي غير مستعدة له على الأرجح، لأنها مشغولة بما تسميه (العملية السياسية التفاوضية مع السلطة) شبيهة بلحظة الميثاق، وهذا ما يفسر بحثها المستميت عن الأقصى بدلا من القبول بالممكن.

السلطة خطت خطوات للمساعدة على الوصول إلى هذا الحل، ولكنها لم تلمس إلى تاريخه أي جهد يبذل على صعيد المساعدة على إيجاد هذا الحل، فهي تقف عند محطة مطالبها التي تعد نهائية وغير قابلة للتفاوض حولها، بل تعدها خطا أحمر لن تتنازل عنه.

جوهريا، لا يوجد خلاف كبير حول الأهداف السياسية المستقبلية، الخلاف هو حول التوقيت والمدى والخطوات المطلوبة في المرحلة الحالية وفي المرحلة المستقبلية، وباختصار حول بناء الثقة، ولذلك نعتقد أنه يجب أن تبدأ المرحلة الجديدة بإعادة تأهيل المعارضة من خلال العمل على دمجها مجددا ضمن الحراك السياسي الواقعي - في أفقه الإصلاحي وتشجيعها على الدخول في حوار «حل الوسط السياسي الممكن» الذي يعني القبول بحلول مرحلية متوازنة وتوافقية، تراعي مصالح الجميع، ضمن أجندة زمنية واضحة، ولن يتم ذلك إلا عبر الحوار المنشود، الذي لا يمكن أن يبدأ في ظل استمرار العنف والفوضى والتعدي على القانون.

* كاتب وإعلامي بحريني