«تغريدة» مسؤول

TT

تخيلوا معي لو يغرد الرئيس الأميركي باراك أوباما حول موقف معاكس لموقف البيت الأبيض من كوريا الشمالية، من منطلق رأيه الشخصي، ما الذي سيحدث؟ إن أحدا لن يصدقه، وسيتوارى الديمقراطيون خجلا منه، وستكون تغريدته مادة دسمة في البرامج التلفزيونية الساخرة، وبالنهاية سيشعر أنه كان عليه أن يبتلع رأيه ويلتزم الصمت. هذا ما سيحصل في المجتمعات الغربية التي سبقتنا في ثقافة الحوار والانفتاح، وأصبحت جزءا من معتقداتها وقيمها.

«أنا هنا أمثل نفسي»، عبارة يضعها بعض المغردين في تقديم أنفسهم في موقع التواصل العالمي «تويتر». وبعضهم الآخر، وإن لم يذكرها، مؤمن بها ويعمل بمضمونها. الحقيقة لا أعرف ماذا تعني هذه العبارة تماما، هل تشير إلى أن شخصية صاحب الحساب منفصمة إلى اثنتين؛ واحدة رسمية في عمله، والأخرى شخصية في «تويتر»، وبالتالي لا تمكن مساءلته عن تغريداته، أو لا يحق لأحد أن يربط نشاطه في «تويتر» بمهنته؟

الموضوع يمكن تفنيده بالإجابة عن سؤالين محددين؛ هل لكل المغردين مساحة التعبير نفسها، وحول كل الموضوعات؟ وهل تتحمل المؤسسة التي يعمل بها المغرِّد عاقبة تعبيره عن رأيه، ولو أساء للآخرين وارتكب قذفا أو تحريضا أو تأييدا للجريمة؟

بالنسبة للسؤال الأول؛ فمن حق الطبيب مثلا أن يغرد حول ميوله الرياضية، أو عن إعجابه بقصيدة شعر، أو يشارك المهتمين تجاربه الشخصية في تربية أبنائه، فهو إنسان في المقام الأول، ومن حقه التعبير عن ذاته، ومواقع التواصل الاجتماعي تهدف في الأساس إلى جعل العالم قرية صغيرة يتشارك فيها الأفراد الاهتمام والهموم. إنما إن قرر الخوض في مجال مهنته الطبية بالحديث عن الأدوية أو تشخيص الأمراض، فلا يمكن أخذ ما يقول على أنه قناعة شخصية، بل رأي طبي يُحاسب عليه قانونيا واجتماعيا. وهذا الأمر ينطبق على كل أصحاب المهن، فتعبير ذي التخصص الشرعي عن رأيه في قضية دينية، سيؤخذ على محمل الرأي الديني العلمي، ولا يمكن تفسيره بغير ذلك. ولأن المجتمعات العربية، خاصة الخليجية منها، محافظة بدرجة كبيرة، ويحوز الرأي الديني لديها الكثير من التقدير والاعتبار، فبمجرد أن يكشف أهل العلم الشرعي عن رأيهم حول مسألة فقهية، أو حتى توجه سياسي، أو قضية تربوية معينة، سيتأثر بقولهم الناس ويظنونه موقفا شرعيا ملزما واجب الاتباع، وهذا أمر بالغ الخطورة والحساسية.

قد يكون في ذلك ظلما للمغرد المسؤول، وتضييقا على حريته في التعبير، ولكنها ضريبة المسؤولية الاجتماعية التي لا يمكن التنصل منها، ولن ينزع عن نفسه كل المسؤولية أن يقول إنه يمثل نفسه فقط. هذه حقيقة يؤكدها القانون الذي ينظم العلاقة بين الناس، والذي لا يعنيه إن كان للمغرد شخصية في «تويتر» وشخصية في العمل، وشخصية فوق القمر؛ فهو يقف أمام القانون بكل شخصياته المتعددة، أيا كانت تصنيفاتها، وعليه أن يتحمل وزر كل ما يفعل. وربما كان العقاب المجتمعي أقسى على المغرد أحيانا من عقاب القانون؛ فمن المحرج جدا أن يغرد المسؤول بلا مسؤولية أدبية، مما يجعله هدفا للغضب الشعبي أو الانتقاد من المجتمع والأسرة.

أما ما يخص السؤال الثاني، حول مسؤولية المؤسسة عن تغريدات مسيئة قد تخرج من موظفيها، فهذا الأمر له لائحة تنظمه فيما يخص الموظف العام بحسب النص التالي: «على الموظف الابتعاد عما يسيء للشرف والكرامة والتحلي بالأخلاق الكريمة وحسن السلوك داخل مقر الوظيفة، أو خارجه. وإذا ارتكب الموظف مخالفة في جهة غير التي يعمل فيها يحال إلى هيئة الرقابة والتحقيق».

النص يؤكد حق المؤسسة في الدفاع عن سمعتها أمام الأخطاء الواقعة من منسوبيها وتحملهم مسؤوليتها، وأن هذه المسؤولية تقع على كاهلهم، وإن خرجوا من أسوار المؤسسة، إلى «تويتر» مثلا؛ فالواقع المؤسف أن هناك من يستغل مكانته في «تويتر»، والعدد الكبير لمتابعيه، في فرض إملاءات تخدم مصلحته الشخصية، أو التحريض لتصفية حسابات مع خصومه ومناوئيه، وهنا يأتي دور الدولة التي من واجبها الحفاظ على السلم الاجتماعي بمساءلة المخطئين، بلا تلكؤ أو تأخير.

المجتمعات العربية حديثة العهد بحرية التعبير، ستحتاج وقتا حتى تدرك مسؤولية الكلمة وتلتزم بأخلاقياتها، وحتى يتحقق المبتغى، ولا نعرف متى ذلك، سنشهد أخطاء يرتكبها المسؤول ظنا منه أن «تويتر» مجلس عائلي، أو حلقة من أصدقائه المقربين يفضفض فيها عما في نفسه بلا تفكير بالعواقب.

«تويتر» أرض فسيحة للتعبير، لكنها زلقة، تتطلب التوازن وأخذ الحذر، فالكلمة المكتوبة في «تويتر» كالمنطوقة باللسان، مثل الرصاصة؛ إن خرجت فلن تعود.