فيلم في كشتبان

TT

ليست هي دمشق التي تضيق مساحتها وتنكمش لكي لا يبقى منها سوى بيت قديم من طابقين وسطح، بل هي الفسحة التي يمكن للمخرج أن يتحرك مع الكاميرا في نطاقها. إن الخروج للتصوير في الشوارع غير مأمون، وقد ينتهي برصاصة في العين. عين المواطن أو عين المصور أو عين الكاميرا.

هذا هو الشعور الذي يتملك من يرى فيلم محمد ملص الأخير. لقد أراد المخرج السوري أن يحتجزنا رهائن في الغرف الصغيرة للبيت، نتحرك بحساب، ولا نمد الأقدام لئلا تصطدم بالكاميرا، لكنه سمح لنا بأن نفرد أرواحنا واسعة مع كل لقطة قام بتصويرها وكأنها لوحة انطباعية من فرط عذوبتها.

عنوان الفيلم «سلم إلى دمشق». وفي بدايته نسمع صوتا يقول: «عشت في بلد لا يعطيني شيئا ويطالبني بكل شيء». إنه صوت فؤاد، الشاب الذي يحب الأفلام ويحمل بيده كاميرا صغيرة يصور بها كل ما يراه. لذلك تغاضى أصحابه عن اسمه وسموه «سينما». و«سينما» يخبرنا بأن الأفلام علمته كيف يهرب من واقعه، وكيف يلعب بالصور ويلصقها على الأفكار التي تخطر على رأسه.. كيف يحلم باليوم وينسى البارحة ويفكر بالمستقبل ويستطيع أن يواصل العيش.

ومثلما هناك بطل للفيلم هو الشاب «سينما»، هناك بطلة تدعى «غالية». شابة من الساحل، ابنة امرأة كانت تحب حافظ الأسد وأب كان عسكريا تلتمع على كتفيه النجوم ثم صار منقذا بحريا سكيرا. وهناك بطلة ثالثة هي زينة التي غرقت في البحر، لكن روحها لم تفارق صديقتها غالية. لقد دخلت تحت جلدها وكأنها تقمصتها. صارت غالية هي غالية وزينة معا. وانطلاقا من هذه الفكرة يمضي بنا محمد ملص إلى متابعة فيلم لا يشبه المعهود من الأفلام. قصيدة مصورة؟ استيهامات فنطازية؟ شريط تجريبي للمهرجانات وللمثقفين والنخبة؟ سيكون على المتفرج أن يرتضي بالذهاب مع المخرج إلى آخر المغامرة لكي يفوز بمتعة الرحلة ومفاجآتها البصرية الأخاذة. ومنها منظر تفاحات وصلت للتو من شجيرات مجدل شمس، يقذف بها إلى بركة البيت فيطرطش الماء ويصل رذاذه إلى قلوب المتفرجين.

تأتي غالية إلى دمشق لتقيم لدى أم سامي، المرأة التي تؤجر غرف بيتها العتيق لبضعة شبان وشابات جاءوا من مشارب مختلفة. كل منهم يحب فنا أو يتبنى قلقا. بينهم من تنحت الصلصال أو من يحترف الخط أو يعشق السينما أو ذاك الذي يبطن جدران غرفته بصفحات جريدة «الثورة». لكن غالية ليست وحدها. إنها مسكونة بروح صديقتها زينة التي تتراءى لها مرتدية فستانا طويلا فاتحا مطرزا بالأزهار. ولأن زينة كانت تحلم بأن تصبح ممثلة، فإن غالية تقرر أن تكون ممثلة. وهكذا نتعرف إليها واقفة على المسرح، تمزق غلالة ستارته وتنزل إلى الحياة الواقعية تاركة صديقها «سينما» يتابعها بكاميرته، يصورها ويوضح لها ما يستغلق عليها فهمه ويساعدها في الحصول على غرفة في البيت.

كانت الغرفة لنزيلة من الطائفة العلوية، جاء العسكر ودققوا في هويتها ولم يعجبهم أنها تقيم مع «الخليط» فأخذوها لتقيم مع «جماعتها». إن العسكر يأتون من دون سابق إنذار. يداهمون منزل زينة، الغائبة الحاضرة، ويعتقلون أباها ويتركون والدتها تموت حسرة. سحبوه من بيته ولم يسمحوا لزوجته بأن تعطيه مربى النارنج الذي يحبه. وهو عندما سيخرج من المعتقل لن يجد أحدا في البيت. ولن يفهم لماذا يساق الناس إلى السجون لسنة، لثلاث سنوات، لسبع عشرة سنة، من دون تهمة أو ذنب. يظل يردد: «ليش؟ ليش؟ ليش؟».

غرف بيت أم سامي صغيرة مثل الزنازين. وفيها، بالإضافة إلى مستأجريها، تمثال أنجزته النزيلة النحاتة لسجين لا تسمح له قامته بالإطلالة من الكوة العالية لغرفة السجن، فيقطع رأسه ويرفعه بيديه، عاليا، على أمل أن يرى ضوء النهار من خلال القضبان. لكن ضيق الأماكن يضاعف من شعور المتفرج بالحصار المفروض على النزلاء، على جميع من في المدينة. لهذا كان على كل منهم أن يتصرف في غرفته بالشكل الذي يسمح له بأن يباعد ما بين جدرانها. كأن ينكمش في ركن من الأركان، مثلا، لكي يسمح لحبيبته بأن تنضم إليه فيبددا الاختناق بالالتصاق.

يلتقي عشاق الفيلم ويتحاضنون على إيقاع رصاصات ليلية. إن البلد في حالة حرب وهم يلجأون إلى الحب لأنه خط دفاعهم الأخير. يتفرجون على الأفلام القديمة التي يعرضها لهم «سينما» على شرشف أبيض يمتد بين الطابقين ويحاذرون النزول إلى الشوارع التي صارت مسارح للعنف والقتل. ورغم الشعور بأن المخرج كان يتحرك في كشتبان ويصور في مساحة متر مربع، فقد نجح في أن يفتح الآفاق المكتومة مستخدما العبارة الشعرية حينا، أو الموسيقى التصويرية، أو الجماليات البصرية التي حولت المشاهدة إلى متعة حميمة.

هل غابت دمشق عن فيلم محمد ملص؟ بل كانت حاضرة في ذلك الاختناق الذي كان لا بد من أن ينتهي بانفجار. انفجار رمزي لا يخلو من مباشرة، حين يأخذ الشباب سلما خشبيا ويستعيرون تمثال السجين المحروم من بلوغ كوة الزنزانة، ويصعدون إلى السطح، إلى السماء التي فوق السطح، كل واحد منهم يرفع الآخر ويسنده، مثل غريق يستغيث طالبا الحياة.