زمن الانقلابات ولَّى وما جرى في ليبيا محاولة إنقاذية

TT

قبل مهاجمة ما يسمى عملية «الكرامة»، التي قام بها اللواء خليفة حفتر ومعه عدد كبير من ضباط الجيش الليبي السابقين وانضمت إليه تلقائيا بقايا قطاعات هذا الجيش الذي كان دمره معمر القذافي ولم يعد جيشا، كان يجب وبالضرورة تصور كيف ستكون نهاية هذا البلد الذي تحول إلى «تورا بورا» ثانية، تتقاتل وتتصارع على أرضه عصابات إرهابية تقاطرت إليه من شتى أصقاع العالم وأصبح يشكل تهديدا في غاية الخطورة على كل الدول المجاورة وبخاصة مصر، الدولة المستهدفة من قبل الإخوان المسلمين، والمنخرطة في مواجهة مسلحة متصاعدة مع تنظيمات سرية، يسود اعتقاد يصل إلى حد الجزم بأنها تشكيلات تابعة لما يسمى: النظام الخاص «الإخواني» الشهير الذي كان انخرط في العنف والإرهاب في وقت مبكر من القرن العشرين.

كانت ليبيا قبل هذه «الحركة»، التي قام بها عدد من ضباط حطام الجيش الليبي، الذي كان بحكم المنتهي والملغى حتى قبل ثورة فبراير (شباط) المباركة عام 2011، ذاهبة بخطى متسارعة نحو نهايتها ككيان واحد وكدولة موحدة وكانت كل محاولات النهوض والتقاط الأنفاس قد باءت بالفشل، وأيضا كانت قد تحولت إلى ساحة غريبة عجيبة تتصارع فوقها مجموعات إرهابية وجهوية وقبلية لا حصر لها وبهذا فإنه كان لا بد من أن يبرز في وسط هذه الفوضى من يخاطر ويتحمل مسؤولية انتشال ما يمكن انتشاله من هذا البلد الذي أصبح شعبه الطيب فعلا يدفع ثمن أكثر من 40 عاما من حكم معمر القذافي الذي لا نظير له ولا مثله أي حكم منذ بداية الخليقة وحتى الآن.

إن المعروف، وهذا لا جدال فيه، أن حلف شمال الأطلسي بدوله كلها، وفي مقدمتها الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا، هو المسؤول عن وصول ليبيا إلى هذه الأوضاع المأساوية المرعبة التي وصلت إليها؛ فهو بعدما ساهم، مشكورا، مساهمة عسكرية أساسية في إسقاط معمر القذافي وإطاحة نظامه «الكاريكاتوري»، الذي لا مثيل لبدائية استبداده، بادر إلى الرحيل والمغادرة على الفور وترك بلدا مدمرا سياسيا ونفسيا، حوله «الأخ قائد الثورة» إلى حطام وإلى ما يشبه العصف المأكول، دون أن يلوي على شيء ودون أن يفكر بأنه برحيله السريع والعاجل هيأ الظروف لبروز أفغانستان أخرى وظهور قاعدة إرهابية بحجم هذا البلد الكبير مواجهة لأوروبا على شواطئ البحر الأبيض المتوسط الجنوبية.

وحقيقة أن هذه المغادرة السريعة والعاجلة لحلف شمال الأطلسي بمجرد إسقاط نظام القذافي ودون إعطاء الشعب الليبي الفرصة التي يحتاجها للوقوف على قدميه، قد عززت القناعات القائلة إن المقصود هو إغراق كل دول هذه المنطقة في «الفوضى الخلاقة» التي كان دعا إليها جورج بوش (الابن) والتي تجسدت حتى الآن في هذا الذي نراه في العراق والذي نراه في ليبيا وأيضا في سوريا وفي اليمن.. والذي كان من الممكن أن نراه في مصر لو لم ينتفض الشعب المصري في الثلاثين من يونيو (حزيران) 2013 وتتحرك القوات المسلحة المصرية استجابة لهذه الانتفاضة لتصحيح المسار ولقطع الطريق على فتنة كبيرة كانت قادمة لا محالة.

وبالطبع فإن الذنب الفعلي لم يكن، بالنسبة إلى هذه الحالة المرعبة التي انتهت إليها ليبيا، ذنب حلف الأطلسي الذي بادر إلى مساندة الشعب الليبي للتخلص من معمر القذافي وإسقاط نظامه البائس بل ذنب «الأخ قائد الثورة»، ولعن الله هكذا ثورة، الذي، بما فعله خلال أربعين عاما وأكثر قد دمر الحياة السياسية في هذا البلد الذي كان في بدايات نهوضه وفي بدايات تجربة ديمقراطية كانت على بساطتها وتواضعها واعدة، وهنا فإنه لا بد من التذكير بأن هذا هو ما حصل في سوريا وأوصلها إلى هذه الحالة المأساوية التي وصلت إليها وأن هذا هو ما حصل في العراق وما حصل في اليمن «السعيد» الذي أوصلته أنظمة الانقلابات العسكرية المتعاقبة إلى تعاسة أكثر كثيرا من التعاسة التي عاشها تحت حكم إمامة عائلة حميد الدين!!

إن هذه الخطوة التي قام بها اللواء خليفة حفتر، وشاركه فيها عدد كبير من ضباط الجيش الليبي (السابق) والتي لا يزال نجاحها لم يُتأكد منه بعد، هي خطوة إنقاذية رغم كل ما قاله «الإخوان المسلمون» ومن يساندهم ويقف خلفهم عنها كتلك التي بادرت إليها القوات المسلحة المصرية والتي لولاها لكانت مصر تكابد الآن نظاما استبداديا هو نظام حكم الحزب الواحد الأوحد، الذي لا تزال سوريا تحت نظام بشار الأسد تعاني منه، والذي عانى منه العراق سنوات طويلة انتهت بكل هذا الذي نراه الآن. ولعل ما يعزز صحة هذا الذي نقوله هو أن الشيخ راشد الغنوشي، الذي يسجل له أنه بتلاؤمه مع الواقع السياسي والاجتماعي في بلده قد جنب تونس تجربة كتجربة سوريا وكتجربة ليبيا وأيضا كتجربة مصر قبل الثورة الثانية، ثورة الثلاثين من يونيو، كان وصف في مذكرة نقد ونقد ذاتي إلى اجتماع للتنظيم العالمي «الإخواني» في إسطنبول سياسة الإخوان المسلمين المصريين بأنها «مرتبكة وارتجالية ومتمردة وصبيانية».

لقد قال الغنوشي في مذكرة النقد والنقد الذاتي التي تقدم بها إلى اجتماع القيادة العليا للتنظيم العالمي للإخوان المسلمين والتي رفضها رجب طيب إردوغان وحاول إخفاءها: «لقد جرت الانتخابات (في مصر) وهيمنوا (أي الإخوان) على الأغلبية هم وحلفاؤهم ثم استفردوا بالمجلس (المجلس النيابي) وشكلوا لجانه وفق رغباتهم ومصالحهم.. ولم يراعوا للحظة باقي شرائح الشعب المصري التي صنعت الثورة.. فلم يرَ المواطن المصري فيما حصل سوى استبدال الحزب الوطني المنحل بـ«الإخوان».. وهذا يعني أنهم لم يكونوا قريبين من نبض الشارع وأنهم لم يحققوا شيئا مما ناضل الشعب المصري من أجله.. كانت غايتهم السلطة والمناصب فاستأثروا بها بطريقة أكثر فجاجة من طريقة مبارك ونظامه.. وسيطر عليهم الغرور».

لقد مر أكثر من ثلاثة أعوام على انتصار ثورة فبراير، لكن ليبيا بقيت تسير في اتجاه المجهول وبقيت تنتقل من الأسوأ إلى الأسوأ منه، فالدولة اختفت نهائيا والفوضى المسلحة عمت البلاد و«شنعت» بالعباد، وتحول هذا البلد، الذي يحتل موقعا استراتيجيا إن بالنسبة لأوروبا وإنْ بالنسبة لأفريقيا ومنطقة المغرب العربي، إلى بؤرة إرهابية كبيرة استقطبت شذاذ الآفاق والقتلة من كل أرجاء العالم وباتت تهدد مصر بتجربتها، التي رغم أنها واعدة لكنها لا تزال طرية، وتهدد تونس والجزائر والمملكة المغربية وهذا كان يجب أن يستدعي عملية «الكرامة» التي قام بها خليفة حفتر وزملاؤه ومن انضم إليهم من التيارات السياسية السلمية في اللحظة المناسبة.

والغريب أن «إخوان» ليبيا المتحالفين مع بعض الجماعات الإرهابية التي بقيت تقطع الطريق على كل محاولة لاستعادة الدولة الليبية، التي أصبحت غائبة غيابا كاملا، قد وقفوا تجاه هذه الحركة الإنقاذية كموقف «إخوان» مصر من ثورة الثلاثين من يونيو، وهم أيضا اعتبروا أن ما قام به اللواء خليفة حفتر وزملاؤه هو انقلاب عسكري كالانقلاب العسكري الذي قام به المشير عبد الفتاح السيسي - على حد زعمهم وحسب إدعائهم - وذلك مع أنه لا توجد في هذا البلد (ليبيا) دولة ليجري الانقلاب عليها، ومع أن هدف هؤلاء الضباط ومن تحالف معهم والتحق بهم هو استعادة النظام واستعادة الدولة الليبية التي بقيت مختطفة وبكل ما فيها من بشر ومن مؤسسات وخيرات من زمر إرهابية حاولت مرارا وتكرارا السيطرة على منابع النفط وعلى محطات تكريره وإنتاجه.

إن ما جرى في ليبيا مثله مثل ما كان جرى في مصر في الثلاثين من يونيو العام الماضي، فهو ليس انقلابا عسكريا وإنما حركة إنقاذية لاستعادة الدولة من اللصوص والإرهابيين وقطّاع الطرق، ويقينا أن الأيام المقبلة ستثبت، إنْ بالنسبة للتجربة المصرية وإنْ بالنسبة للتجربة الليبية التي لا تزال تمر في المرحلة الضبابية، أن زمن الانقلابات العسكرية قد ولى وأنه لن يعود على الإطلاق وأنه لا رجعة لا لنظام حسني مبارك ولا لنظام القذافي، وأن استحقاقات القرن الحادي والعشرين والألفية الثالثة الديمقراطية سوف تفرض نفسها في هذين البلدين العربيين وأيضا في سوريا وكل الدول العربية التي تعاني من عدم الاستقرار وتواجه تحديات إثنية وطائفية كثيرة.