خمسون عاما من الحكمة

TT

إذا نظرت إلى ما مضى من حياتي لا يسعني إلا أن أقول: كم تغيرت الدنيا.

في طفولتي لم تكن المرأة تعمل. كانت هناك نماذج لطبيبات ومعلمات ولكنها كانت نماذج متفرقة لا تشكل ظاهرة مثيرة للجدل. ثم نشأ جيل شقيقتي التي التحقت بكلية الطب وكانت الأنظار مصوبة نحو هذا النموذج خوفا من أن يؤدي التعليم العالي إلى إفساد فرصتها في الزواج. ولكنها تزوجت وأنجبت ونجحت في عملها وفي زواجها. وحين وصلت أنا وبنات جيلي إلى سن الجامعة كان الأمر الطبيعي هو أن نلتحق بالجامعة وما بعدها إن أمكن.

إلى هنا ولم يكن دخل الزوجة من عملها مشكلة تستوجب حلولا كما هي الآن.

غريب أن تبقى صاحبات العلم والمؤهلات في براثن العرف البائد وتفترض كل منهن أن دخلها من العمل حق مقدس لا يجب التفريط في قرش واحد منه لخدمة البيت أو الأسرة. وتعتبر أن الزوج الذي يفكر في راتبها كجزء من موارد الأسرة هو زوج طماع عينه فارغة.

والحقيقة هي أنني أيضا أعتبر الزوج الذي يظن أن قوامته على الزوجة ووضعه كرب أسرة مكلف برعايتها يمنحه الحق في مطالبة زوجته براتبها كاملا بحيث يكون له هو حرية التصرف فيه، أعتبر هذا الزوج تتاريا من نسل هولاكو وجنكيزخان. فلا هي كريمة النفس ولا هو فاهم لأصول دينه.

حين تعمل الزوجة في مهنة من اختيارها تعينها على توظيف ما تعلمت لخدمة الآخرين تكتسب عنصرا إضافيا من الثقة والإحساس بالذات، وحين تتسلم راتبها الشهري تشعر بأمان واطمئنان إن شاءت أن تكرم أمها بهدية أو تخرج صدقة من مالها أو تشتري شيئا لنفسها لم تكن ترضى بأن تشتريه من مال زوجها، وتشعر باطمئنان حين تدخر جزءا من مالها للزمن. فإن اصطدمت بنوازع تتارية من قبل زوجها شعرت بالظلم الشديد ونشأت بينهما مشكلات لا حصر لها، خصوصا حين يدافع عن موقفه قائلا إن عملها خارج البيت يقتطع جزءا من حقوقه عندها في خدمته وخدمة بيته وعليه فإن الراتب الذي يصل إليها من حقه.

الأستاذ جنكيز ينسى أن الزوجة تخدم بيتها تفضلا باسم الوئام والمحبة لا كبند في منظومة الحق والمستحق، وينسى أن مالها حق لها إلا ما تبذله تطوعا. والأستاذة صاحبة العلم والمؤهلات تنسى أن الزواج شركة مساهمة بالنصف، وأنها لو دفعت راتب خادمة من مالها الخاص أو اشترت سجادة أعجبتها أو كومبيوترا للأولاد فهي لا تفرط في أعز ما تملك لأن المال يوظف لإسعاد صاحبه وإسعاد أهله ولا يعتبر إنفاقه عملا استشهاديا.

لم تكن أمي رحمها الله امرأة عاملة. وما زلت أذكر اليوم الأول من كل شهر. كان أبي إذا عاد من عمله حاملا راتبه دخل هو وأمي غرفتهما الخاصة وأغلقا الباب وعملا معا على تحديد ميزانية الإنفاق لذلك الشهر. ثم يفتح باب الغرفة وعلى وجه كل منهما ابتسامة رضا وبيد أبي قطع لامعة من النقود يمنحها لكل منا كمصروف نفرح به كثيرا. وكانت لأمي أرض زراعية ورثتها عن أبيها تدر عليها دخلا سنويا. لم يسألها عنه أبي قَط ولكنها كانت في بداية موسم الصيف من كل عام تطالبه بالسفر إلى المصيف، فإن اعتذر بسبب قلة المال قالت: سأدعوكم أنا هذا العام للتصييف في الإسكندرية.

لم تقل له أبدا فلوسي وفلوسك. وكانت رحمها الله تعمل في البيت من الفجر إلى ما بعد العشاء..

واستمرت بينهما الحياة الزوجية أربعة وخمسين عاما بالتمام والكمال. ولم تشعر أمي قَط بأن قصقصة ريش الزوج ماليا هي بوليصة تأمين تحميها من احتمالات زواجه بأخرى مثلا. فالزوج الذي يأنس إلى زوجته ويجد في صحبتها متعة وراحة لا يفكر بغيرها مهما كانت المغريات. وما زلت أحتفظ برسالة كتبها لي أبي بعد وفاة أمي تقطر حزنا وأسفا لأنها توفيت وهي نائمة في فراشها دون مقدمات. وما زلت أتذكر كلماته في الرسالة حين قال: «ذهبت إلى بارئها من دون أن تودعني».

رحم الله آباءنا وأمهاتنا. حين تخلو إلى نفسك فكّر في ماضيك لعلك تتعلم شيئا نافعا يغنيك عن اللهاث وراء كل قرش وكل هللة. فهناك ما هو أثمن وأجدى.