طبخة ما بعد الانتخابات العراقية

TT

كما كان متوقعا، حققت كتلة «دولة القانون» بزعامة رئيس الوزراء نوري المالكي تقدما كاسحا في الانتخابات البرلمانية، بينما تشتت أصوات الكتل الأخرى، وسجلت متفرقات الكتلة العراقية «بطابعها السني» تشتتا يدل على فشل أفكار الذين عملوا من داخلها على تفكيكها، طمعا في زعامة فاقدة التأثير على كل المستويات. وخرج المالكي متسلحا بأكثر من 90 مقعدا، وهو عدد يفوق حاصل جمع الكتل الثلاث التي تليه، مما جعله في موقف تفاوضي يحسد عليه، ووضع الكتل الأخرى أمام معضلة الحفاظ على تماسكها تحت ضغط الطموحات الفردية لأعضائها، التي «تميز» بها سياسيو العراق الجدد، إن لم تكن امتدادا لمراحل سابقة خضع فيها السياسيون لإغراءات المال والسلطة.

يتطلب تشكيل الحكومة الجديدة 165 صوتا برلمانيا، وحتى إذا افترض بقاء كتلتي «الأحرار» و«المواطن» الشيعيتين متماسكتين، فما يمكنهما تقديمه يبلغ نحو 60 صوتا، ومن الصعب «حاليا» توقع ذهاب الأكراد إلى البرلمان متوحدين، وذلك بسبب خلافاتهم الحزبية، واختلال المعادلات السابقة بعد عودة قوة الاتحاد الوطني الكردستاني. وحتى إذا تماسكت الأصوات الكردية، فستكون عملية التفاوض مع الكتل المعارضة للولاية الثالثة شاقة، بسبب التباعد في التوجهات والأهداف، ولا وجود لنقاط الالتقاء غير حرمان المالكي من التمتع بنتائج الفوز، وهو تناغم ممكن أن يتعرض لاهتزازات أمام المناورات المقابلة، وهي كثيرة باتجاه الطرفين.

الأصوات «العربية السنية» ليست متبعثرة فحسب، بل إن حب الزعامة الزائفة دفع بعض من ظهروا على السطح إلى محاولة عزل رئيس الكتلة «العلماني الشيعي» إياد علاوي، إلا أنهم أصيبوا بخيبة أمل جراء حصوله شخصيا على ما يقرب من 230 ألف صوت في بغداد، أي التسلسل الثاني على مستوى العراق بعد المالكي، ومن المؤكد أنه حصد أصواتا سنية على حساب الزعامات السنية. وبما أن التناقض الفكري والمصلحي قائم بين هذه المتفرقات، فإن فرص استمرار التماسك تبدو صعبة للغاية، فضلا عن استبعاد احتمالات العودة للعمل كتلة واحدة.

وعلى الرغم من الصعوبات التي تواجه معارضي الولاية الثالثة، فإن كتلة المالكي قد تواجه صعوبات أولية في استقطاب نحو 70 صوتا إضافيا، فعملية تجميع أصوات من هنا وهناك تتطلب جهودا كبيرة ووقتا، إلا أن الوصول إلى صفقات صغيرة مبنية وفق نظرية تفتيت الكتل المقابلة لا يمكن استبعاده، مع بقاء الاحتمال قائما، لتحقيق صفقات عند الاضطرار على مستوى ضربة كبيرة، مع الأكراد مثلا، مما يضع المعترضين من ممثلي العرب السنة في زاوية محصورة بجدران الفشل الاستراتيجي، وهو أمر متوقع. ووفقا لقواعد المعلومات، فسنرى أصواتا عربية سنية مع الولاية الثالثة، خصوصا إذا ما بقيت «متحدون» متمسكة بتوجهات مناطقية عوقبت عليها انتخابيا، فما حصدت من أصوات لم يشكل نسبة متقدمة مما هو مفترض، حصادا لسياسة انعزالية.

ومع أن التأثير الخارجي لا يمكن استبعاده، فإن الكتلة الأكبر ستكون أقل الكتل تأثرا بالضغوط الخارجية، خلاف الكتل الأصغر والصغيرة التي يمكن أن تتعرض لضغوط مختلفة ومتعددة، كما أن ما قدم من طعون في النتائج قد لا تثبت جدواه قانونيا، وستبقى النتائج بمستوى عدم الإخلال بما أعلن عنه، مما يفتح الطريق أمام تعزيز الإرادة في فرض الولاية الثالثة، استنادا إلى نص دستوري شارك في تحريره كل السياسيين المعارضين له حاليا.

ومن الخيارات والاحتمالات المتوقعة أن تتفق «دولة القانون» مع كتلة «المواطن» ونصف الأكراد والتشدد حيال مطالب بارزاني، إلى جانب عدد من نواب العرب السنة، والعمل على عزل من يتبقى من «متحدون» مع النجيفي، الذي حاول مخطئا، التفرد بالقرار العربي السني، وقد يكون هذا خيارا مرجحا لتأمين فريق حكم متجانس.

وعلى المستوى الخارجي، فإن الوضع المالي العراقي، ومستوى العلاقات المتقدم مع الدول الغربية، وفقدان الدول الإقليمية للثقة بقدرة أصدقائها من السياسيين، عوامل ستجعل الحكومة العراقية أقل تأثرا باستمرار حالة عدم الانفتاح الدبلوماسي والنفسي. لذلك، فمن مصلحة الجميع، بما في ذلك العراق بالطبع، مراجعة معادلات السياسة السابقة، والعمل على تعديلها على أساس المعطيات التي ستستقر، والتي لا يمكن تجاهلها. وعلى المستوى الداخلي، فالفريق الذي سيبقي الوحدة الوطنية أساسا لـ«مفاوضات» تشكيل الحكومة الجديدة سيحقق تقدما أقوى، وحتى الآن، فإن بعض خصوم المالكي يعانون ضعفا في إدراك هذه الحقيقة.