النهاية الطبيعية للتعاهد بالإكراه

TT

انقضى في لبنان اليوم (السبت 24 مايو/ أيار 2014) عهد رئاسي كان نصفه الأول سوري الهوى من باب ردْ الجميل، ثم بات النصف الباقي في حالة صحوة، أعاد فيها رئيس البلاد ميشال سليمان ترتيب الأولويات، وقصْده من ذلك أن يطوي اليوم الأخير من العهد بتبرئة ذمة كاملة على صعيد الوطن ثم الطائفة، وهذا كان كثير الوضوح وبكامل الشجاعة في خطاب الرئيس العاشر للبنان المستقل ميشال سليمان.

وعلى مدى 71 سنة هي عمر الاستقلال للبنان لم يهنأ بنعمة الاستقرار أي عهد من عهود عشرة رؤساء تعاقبوا على الترؤس فضلاً عن اثنين انتُخبا واغتيلا؛ أحدهما بشير الجميل من دون أن يتسلَّم المنصب ثم لم يسْلم، والثاني رينيه معوض الذي تسلَّم لكنه لم يسْلم. وللتذكير فإن العشرة الذين تعاقبوا على سدة الرئاسة ولم يحققوا للناس الاستقرار المنشود، ولا للوطن الصغير التقدم المأمول، هم: بشارة الخوري، كميل شيمعون، فؤاد شهاب، شارل حلو، سليمان فرنجية، إلياس سركيس، أمين الجميل (نتيجة اغتيال شقيقه بشير)، إلياس الهراوي (نتيجة اغتيال رينيه معوض)، إميل لحود، ميشال سليمان، ثلاثة أتوا من المؤسسة العسكرية (شهاب، لحود، سليمان)، وسبعة أتوا بفعل معادلات أميركية - فرنسية - فاتيكانية. ولولا المسعى المحمود للمملكة العربية السعودية المتمثل بإنجاز «اتفاق الطائف» (22 أكتوبر/ تشرين الأول 1989) لكانت عقارب ساعة الاستحقاق الرئاسي توقفت عند عهد أمين الجميل، ولكان لبنان سيصبح بالفعل دولة فاشلة في الحد الأقصى أو دولة فقدت الهيبة والمكانة، مثلما سينتهي إليه مصير سوريا التي كان في مقدور حاكمها التصرف كرجل دولة وليس كرئيس مخفر.

تسلَّم قائد الجيش، العماد ميشال سليمان، الرئاسة بفعل الفاعل السوري والارتضاء الإقليمي والسكوت الدولي، ووجد نفسه غير قادر على ترجيح كفة القرار المستقل على كفة الإرث السوري - الإيراني لاحقاً الذي يرهق الكاهل. وعندما لم يستطع على مدى خمس سنوات من معالجة تعقيدات هذا الإرث فإنه، ولكونه لا يريد تمديداً لولايته كالتي أرادها، بسعي حثيث لها، الرئيس السابق إميل لحود والرئيس الأسبق إلياس الهراوي، ارتأى التصرف قولا وعملا على نحو تعبير الشاعر العربي (فليُسعف النطق إن لم تُسعف الحال) مستنداً في ذلك إلى وجدانه وضميره وقناعاته، بادئاً بالنقطة الأكثر صلابة، وهي استئثار «حزب الله» بمستلزمات القرار، وهي السلاح، والارتباط بالنظام السوري. وحول الأمريْن، قال مِن الكلام الذي قوبل بأشد منه. ولم يقتصر الأمر على مطالبته باحتواء سلاح المقاومة من خلال استراتيجية دفاعية، مستقوياً بخطوات نوعية، أهمها الهِبة المليارية السعودية، بتعزيز قدرات الجيش، ولا أيضا على مطالبة «حزب الله» باسترجاع مقاتليه من سوريا، وإنما صوَّب نحو النقطة الأكثر حساسية، وهي المعاهدة التي أبرمها الرئيس إلياس الهراوي مضطراً برغبة الرئيس حافظ الأسد وجرى التوقيع عليها في دمشق من جانب الرئيسين في مثل هذا الشهر من العام 1991 (يوم 22 مايو).

وفي هذا الصدد رأيْنا الرئيس ميشال سليمان، وفي الشهر نفسه ربما متعمداً ذلك، يقول - متفادياً التسميات - قبل ثلاثة أسابيع من انتهاء ولايته أمام جمْع من الوزراء والسفراء والقناصل اللبنانيين، إن «العلاقات المميزة هي مع كل السوريين وليس مع جزء من الشعب السوري، كما يجب إعادة النظر بالاتفاقات التي أُبرمت قبل التمثيل الدبلوماسي مع سوريا (يقصد المعاهدة)، لأنه بات هناك تبادُل دبلوماسي وتعارُض في المقابل بين دور السفير ودور الأمين العام للمجلس الأعلى اللبناني - السوري، كما يجب النظر في أمور أخرى..».

هذا الكلام ما كان ليقال قبل أن تبدأ الانتفاضة في سوريا على النظام، لكن ليس معنى ذلك أن الكلام ليس حبيس الصدور، وذلك لأن المعاهدة فُرضت فرْضاً على الرئيس إلياس الهراوي، وأنها كانت، إذا جازت المقارنة، مثل تلك المعاهدة التي فرضها الكرملين (بريجنيف - كوسيغين - بودغورني) على الرئيس أنور السادات.

والذي حصل هو أن الاتحاد السوفياتي خشي، بعد الوفاة المفاجئة للرئيس جمال عبد الناصر، أن تنقلب مصر الرئيس الخلَف أنور السادات، على الاتحاد السوفياتي، وتغرد على الشجرة الأميركية، فسارع ـ ومن قبل أن يتوقف الدمع في مآقي المصريين حزنا على الرحيل المفاجئ لرئيسهم وخوفهم من المصير كون البلد في حالة احتلال جزء من أرضه (سيناء) وكون الملاحة معطَّلة في قناة السويس التي يحقق المرور فيها دخلا بالعملة الصعبة ـ وفرَضَ على السادات إبرام معاهدة بأمل أن يكبل بها الإرادة المصرية فلا تستبدل بالاتحاد السوفياتي الولايات المتحدة.

وبالنسبة إلى الرئيس حافظ الأسد، فإنه خشي، بعدما أمكن إنجاز «اتفاق الطائف» الذي ما كان ليُنجز لولا مكان الانعقاد (السعودية)، وجهود الملك فهد بن عبد العزيز وإخوانه، وتمنيات شعب المملكة عموماً، أن يستقوي الحاكم اللبناني عهداً بعد آخر بأجواء الاتفاق المشار إليه وروحية صياغة بنوده المتزنة، فطلب من الرئيس الذي اختاره دون غيره (أي إلياس الهراوي) إبرام معاهدة مع سوريا، وجرى التوقيع على المعاهدة في دمشق يوم (22 مايو 1991) بمثل التوقيع من جانب الرئيس السادات والرئيس بودغورني في القاهرة يوم (27 مايو 1971) على «معاهدة صداقة وتعاون»، مع فارق أن السادات عندما وضع توقيعه كان في الوقت نفسه يضمر نقضاً للمعاهدة، بحيث يلغيها في أول لحظة مناسبة، لأنها كانت معاهدة مفروضة، بينما الرئيس الهراوي وضع توقيعه وهو متيقن بأنه سيورِّث المعاهدة إلى من سيليه، وهو الرئيس إميل لحود (قائد الجيش قبل الترؤس) الذي أبدى، وما زال بعدما بات رئيساً سابقاً، الحرص على هذه المعاهدة.

ثم ها هو الرئيس ميشال سليمان ينطق قبل ثلاثة أسابيع من انتهاء ولايته رفضاً لاستمرار المعاهدة، وهو لو كان في استطاعته أن يفعل ما فعله السادات، لكان أطلق الصوت عالياً منذ أن تسلَّم، مطالباً بحصر العلاقة مع سوريا في إطار السفارتين.

أما لماذا ضيق الرئيس ميشال سليمان من المعاهدة فلعدم التكافؤ بين الطرفيْن المتعاقديْن في مضمونها، وظروف انعقادها لجهة المشاعر والنيات. وهذا حوله كلام لاحق، مع كثير التقدير للرئيس ميشال سليمان الذي حاول، ويُعذر، وسجل في المشهد الرئاسي أنه الوحيد الذي يستعجل الرحيل.. وإلى درجة الإحساس بالفرح.