احترافية الداخلية البحرينية مع التقرير الأميركي

TT

استهل الشاعر العربي الكبير أبو تمام الطائي قصيدة شهيرة له بالبيت التالي:

السـيـف أصــدق إنـبــاء مـــن الـكـتـبِ

فـي حــدّه الـحـدّ بـيـن الـجـدّ واللـعـبِ

ولم يكن شاعرنا الكبير يدرك في حينه أن قادم الأيام سيشهد ما هو أشد من السيف قوة وتأثيرا، فلم يكن يعلم بالطبع أن القوة الناعمة ستكون عنوانا لعصور تراجعت فيها القوة التقليدية، وتصدرتها قوى ذات تأثير ممتد وتؤثر في العقول والأفكار والأمزجة ومناهج التفكير، فمصطلح القوة الناعمة، نقيض مصطلح القوة الخشنة أو العسكرية، وتدريجيا ظهرت أركان هذه القوة الناعمة التي من بينها السياحة والفنون والسينما والدراما والرياضة والإعلام، وهي ناعمة لأنها تعطي قوة وتأثيرا بعيدا عن أي حروب أو صراعات عسكرية.

بهذه القوة الناعمة، تتعامل الكثير من الدول والمؤسسات في العصر الراهن، وفي هذا الإطار جاءت القراءة السياسية للتعاطي الإعلامي لوزارة الداخلية البحرينية مع كثير من التحديات، مستفيدة في ذلك من قوة الإعلام، الذي بات عنصرا رئيسا في المعادلات الدولية، ومن المعطيات الأساسية في رسم السياسة الدولية، خاصة في ظل ثورة الاتصال الهائلة وتحول العالم إلى قرية إلكترونية صغيرة. فمن هذه المنطلقات والقواعد الإعلامية، تعاملت مع كثير من الادعاءات التي روجها أصحابها، وكأنها حقائق مسلم بها ولا تقبل النقاش، بعد أن أصدروها في قوالب رسمية وتقارير معتمدة، ونشروها على الملأ، ولاكتها الألسن، على أساس أنها كتاب مبين لا يأتيه الباطل.

وللقصة بداية، فقد منحت الخارجية الأميركية نفسها صلاحية إصدار تقارير وملفات، تتضمن تقييما لأحوال بقية أبناء الكرة الأرضية، وفي لحظات تقوم وكالات الأنباء والفضائيات بتطيير مضامين هذه التقارير التقييمية، وفي المقابل هناك دول تعقب، وأخرى تلوذ بالصمت، وما فعلته وزارة الداخلية في مملكة البحرين بهذا الشأن، كان أمرا إيجابيا، من خلال ردها على تقرير الخارجية الأميركية حول حقوق الإنسان، حيث أعدت ردا محكما على كل البنود التي تضمنها التقرير وأرسلته إلى الخارجية البحرينية، التي قامت بدورها بنقله عبر القنوات الدبلوماسية إلى نظيرتها الأميركية.

كان من الممكن الاكتفاء بهذه الخطوة، ففي السابق كانت المكاتب والأدراج مصير كثير من الردود والتقارير، من دون إطلاع الرأي العام على مضمونها، لكن ما حدث هو نشر التقرير مفصلا عبر وسائل الإعلام، متضمنا كل نقطة أوردتها الخارجية الأميركية والرد عليها، وعليه جاء الرد في مجمله سلسا ومبنيا على قناعة تامة بقوة الموقف، موحيا في مضمونه بأنه ليس من الحكمة أن ننتظر من يأتي ليعلمنا كيف تسود الرحمة والمودة بيننا، أو من يرسم لنا طريق تعاملنا، ونحن نعيش في مجتمع خليجي واحد، مشهود له بالتماسك والتواصل، فإن كانوا يختزلون ثقافتهم وتاريخهم ويريدون نشرها بصورة أو أخرى، فعليهم إدراك أن أبناء الخليج وصلوا بالعلم واستذكروا التاريخ، وهم مؤهلون لرد الحجة بالحجة.

وقد أجد من الضرورة هنا التوقف أمام نقاط بعينها، فقد حفل التقرير الأميركي بلغة مشحونة بالعنصرية، بمعنى أنهم في بلادهم لا يقولون شرطي أميركي من أصول مكسيكية أو صينية مثلا، في حين يتعاملون مع الآخرين بأسلوب معاكس تماما أي يقولون شرطي يمني أو باكستاني، والأجدر استخدام كلمة شرطي فقط أو شرطي بحريني «لا بأس».. أي ازدواجية في المعايير تلك؟ وأي حصانة تمنحك الحق في معاملة الآخرين بطريقة وترفض أن يراك غيرك من ذات المنظور؟ والأكثر إثارة للاهتمام فيما أوردته الداخلية البحرينية في معرض ردودها أن نسبة النزلاء الذين لقوا حتفهم في مراكز الإصلاح والتأهيل البحرينية هي 0.1 في المائة في حين أفاد تقرير وزارة العدل الأميركية في عام 2009 بأن نسبة السجناء الذين توفوا في السجون المحلية بالولايات المتحدة كانت 12 في المائة، ونسبة الذين ماتوا في السجون الخارجية نحو 25 في المائة، ورغم هذه النسب التي لا يوجد بينها أدنى مقارنة، يتحدث التقرير الأميركي عن وقائع وأرقام من دون أن ينظر إليها نظرة موضوعية، ولم يشغل بال واضعيه إلا التوجه إلى من يسمون أنفسهم «نشطاء» لاستقاء معلومات وتسجيلها في تقرير رسمي.

كلمة أخيرة لكبار العالم ورواد الديمقراطية: ليست القوة في تقارير موجهة ذات نظرة أحادية، وإنما في مضامين بناءة تنطلق من فكر إيجابي يلامس طموحات الأوطان، ويتعامل بروح موضوعية مع كل الأطراف المعنية.. عندما تتعامل بفوقية وازدواجية، فإن مصداقيتك تصبح على المحك وقريبا سوف تصبح في «خبر كان»، وليعلم الجميع أن مجتمعنا الخليجي وشارعه العام شريك في صنع قرار بلاده ومطلع على سياساتها، وليس بعيدا عما يجري في الغرف المغلقة، لذلك فإن هذا المجتمع ناضج بما فيه الكفاية، ولن تنطلي عليه ما تردده التقارير المشبوهة.

* كاتب بحريني