22 مايو بين الحزن والأمل

TT

لا بد أن كثيرين انتابتهم مشاعر الحزن صبيحة 22 مايو (أيار) من هذا العام في الذكرى الرابعة والعشرين لقيام الجمهورية اليمنية، حين تمكن اليمنيون من توحيد الكيانين الجنوبي والشمالي، كما أن الخيبة تتملك الكثيرين منهم عند استعادة شريط ذكريات ما حدث بعدها وحتى اليوم، وغير مجدٍ تكرار الحديث عن الأسباب وتحميل المسؤولية لطرف دون آخر، فواحد اندفع إليها دون إدراك لتعقيدات المركز المقدس وما يحيط به من نتوءات عصية وكان محملا بالعواطف وصدق النوايا والتعبئة النفسية والحزبية على مدى عقود، وآخر تعامل مع الحدث كصفقة سياسية كانت تشكل له حلما يدخل به التاريخ... أخطأ الطرفان وأمر التفاصيل متروك للمؤرخين المحايدين، فهذه فترة لا يستطيع سواهم فك طلاسمها وأسرارها، وكذا قلة من الساسة الذين لا يزالون ملء السمع والبصر.

الوضع اليوم أقرب إلى حالة الميوعة بسبب تراكمات السنوات العشر الأخيرة التي بدأت إثر توقيع اتفاقية الحدود بين اليمن والسعودية، حين شعر الرئيس صالح بحالة استرخاء وطمأنينة بعد سنوات من القلق الذي كانت عقدة الحدود غير المرسمة حينها تسببه للبلدين.. بعدها ظن صالح أن الأمور قد استتبت له دون منازع ولم ينتبه إلى التغييرات الاجتماعية وما يجري تحت القشرة التي زينها له مستشاروه وسطحوا له أخطارها وهونوا عليه تبعاتها الكارثية فيما بعد، لكنه لم يواجه الموقف بذكائه ودهائه المعتادين، وترك الغضب يتزايد والحنق يتراكم، وانشغل عدد كبير من معاونيه بالمصالح الخاصة وتناسوا مسؤولياتهم تجاه الوطن... ما حدث بعدها معلوم للمتابعين عموما واليمنيين خصوصا.. ويبقى السؤال الذي يبحث المواطنون الآن عن جواب له: وماذا بعد؟ هل تحققت أحلامهم؟ هل الأدوات الحالية صالحة؟

الأوضاع في الجنوب ملتهبة ولا يجوز التغاضي عما يعتمل في النفوس هناك، ولعل الرئيس هادي هو المسؤول الأكثر إدراكا لتفاصيل ما يجري هناك والأكثر قربا لما يفكر ويحس به الجنوبيون والشماليون، لكنه يجد نفسه وحيدا ومحاصرا بالقوى التقليدية التي لم يتمكن الفكاك من الأسر الذي تفرضه على كل حاكم تحت مسميات كثيرة أكثرها ضجيجا ما يصدر عن الذين لا يزالون يتشبثون بـ«الحق الإلهي»، أو أنه لم يستطع تحييدها، وزاد من مصاعبه الشلل الذي تعانيه الحكومة بطرفيها القديم والجديد، وهو ما اعترف به رئيسها خلال جلسات الاستجواب التي جرت أمام مجلس النواب خلال الأيام الماضية، وجاءت فاضحة للأداء وتبادل فيها الوزراء الاتهامات وصار كل منهم يلقي بمسؤولية فشله على الآخر.

كانت السنوات الخمس الماضية شديدة القسوة اقتصاديا وسياسيا، واضطربت الأوضاع خلالها إلى درجة غير مسبوقة، ونتذكر أنه حتى خلال الحرب الأهلية التي تلت 26 سبتمبر (أيلول) 1962 كان القتال دائرا خارج صنعاء وفي المناطق القبلية المحيطة بها، بينما كانت باقي المحافظات تعيش حالة معقولة من الهدوء والأمن وانتظام الخدمات على شحتها، لكن الأمر مختلف هذه المرة، فقد انتقلت المعارك إلى داخل العاصمة وإلى كل المحافظات، ولم يعد بالإمكان تحريك الجيش إلى كل المناطق اليمنية، وليس بوسعه العمل كأجير لفريق ضد آخر، وإن كان المواطنون يتمنون أن تمتد يده ويتمكن من حماية مصدر الطاقة الوحيد في البلاد وخطوط الأنابيب التي تستهدفها العصابات بغرض ابتزاز الدولة والحصول على مكاسب مادية.

لقد جاء انتهاء أعمال لقاءات الموفينبيك بجملة من التوصيات التي كان عدد منها واجب النفاذ قبل بدء الجلسات، ولكننا نقف اليوم أمام واقع جديد لا مناص من التعامل معه ومحاولة تصحيح مساره، وهو ما أوضحه الدكتور ياسين سعيد نعمان الأمين العام للحزب الاشتراكي في دراسته النقدية حول السنوات الأربع الأخيرة تحت عنوان «عبور المضيق»، وسرد توصيفا دقيقا لها بلغة أدبية راقية وتمكن من الغوص في الأحداث التي سبقت وتلت خروج الشباب إلى ساحات التغيير بمهارة تجنب معها توجيه اللوم المباشر إلى أي طرف وإن كان الأمر جليا لمن يعرفون دقائق الأمور وظروفها، وهو أمر لا بد أنه لن يرضي من كانوا يتوقعون أن يجلي الغموض ويكشف المستور.

من الواضح الآن أن القرار بتقسيم البلاد إلى أقاليم ستة لا رجعة عنه حاليا، وأن اللجنة التي تعمل على صياغة الدستور ستخرج بوثيقة تكرس هذا الأمر بنصوص نتمنى أن تكون خالية من الغموض الذي اعتاده المشرعون الذين يتبعون هوى ورغبات الحاكم أيا كان، لكن المناخ النفسي المتأزم في الجنوب والأوضاع الأمنية في الشمال وفي الجنوب أيضا، وحالة الاقتصاد غاية في الصعوبة، كما وصفها محقا الرئيس هادي في خطابه بمناسبة عيد الوحدة، وتطرق فيه إلى هول التحديات التي تكاد تعصف بالبلاد، كل هذه تتطلب جهدا استثنائيا من الجميع وابتعادا عن التكالب على ما تبقى من موارد البلاد.. في ذات الوقت يصير مزعجا ارتفاع نبرة الذين ينادون بانتفاء الهوية اليمنية عن الجنوب منطلقين من مرارة وغضب وحنق أتفهم الدوافع وراءها، ولكن الاندفاع في هذا التيار سيخلق مزيدا من الأجواء العدائية والسلبية بين اليمنيين ولن يسهم في إيجاد الحل الذي يتوخاه أغلب الجنوبيين والشماليين أيضا.

كنت واحدا ممن دافعوا عن مطالب أغلب أبناء جنوب اليمن في بقاء كيانهم موحدا كما كان في 21 مايو 1990 في إطار يمن واحد، ولكن التوصل إلى هذه الغاية لن يكون إلا بتوحيد الصف الجنوبي والعمل الجاد لبلوغ حالة من التوافق الداخلي بين قياداته واتفاقهم على رؤية واحدة للعمل السياسي الذي يصب في خانة الاستقرار لليمن واستعادة الوئام النفسي بين الشماليين والجنوبيين وتوجيه الجهود نحو بناء مصالح حقيقية هي التي ستسهم وحدها في بناء يمن مزدهر ومستقر.

يقف الرئيس هادي وحيدا في مواجهة هذه التحديات ولن يكون من الإنصاف أن يتحمل منفردا مسؤولية مواجهتها، لكنه في ذات الوقت يتحمل عبء تجاوزها بحكم موقعه ومسؤولياته الوطنية والدستورية، ولبلوغ هذه الغاية فلا بد عليه من بذل المزيد من الانفتاح على كل القوى التي تقف في صف استعادة دور مؤسسات الدولة، وهذا لا يحتاج إلى انتظار الدستور المتوقع، ففي النصوص الحالية ما يعينه، كما أن الرغبة الشعبية في استعادة الأمن والخدمات الأساسية خير سند له في كل ما يتوخاه ويتمناه لليمنيين، لكن كل هذه الأمنيات لن تتحقق دون أن تتوقف الأحزاب التي احتكرت الوطن عن جشعها، وتتخلى القوى التي صارت على هامش الأحداث عن تصور إمكانية عودتها إلى ممارسة ابتزاز الدولة بما تملكه من سلاح لم يعد قادرا على حسم الأمور.