الخويطر: أسبقية الدكتوراه وتعددية الوزارة

TT

ذو شخصية تغري بالحديث عنها، لا لأنها تحب ذلك، لكن ملامحها تجتذب الأقلام، فهو في عالم الشهادات العليا الأول بين أقرانه السعوديين، وفي دنيا التوزير الأكثر بالأصالة أو بالنيابة، وفي ميدان الوزارات السيادية وغير السيادية الأقدم، وفي ميدان تدوين سيرته الذاتية الأطول باعا، وفي البساطة والتواضع ولباقة الحديث والوفاء والتواصل بالناس يشار إليه بالبنان.

وهو في سمعة ترشيد الإنفاق الحكومي الأبرز مثالا، وفي البعد عن بهرجة الأضواء الأوضح نموذجا، كتبت عنه في هذه الصحيفة بعنوان: قصدٌ في الإنفاق وزهدٌ في الأضواء (11054 في 4-3-2009) بمناسبة تكريمه في المهرجان الوطني للتراث والثقافة (الجنادرية) بوصفه أديبا مهتما بالتراث، مقالا تطرق إلى مدرسته (الخويطرية) في الإدارة التي رفع فيها لواء الاقتصاد؛ المالي من خلال ترشيد الإنفاق ومحاصرة الصرف المترف، والإداري عبر تقليص اللجان والمؤتمرات والندوات والمطبوعات والانتدابات، إلا في الحدود الضرورية في الجهاز الحكومي الذي يتولى الإشراف عليه، ومن خلال هذه الشهرة المبالغ فيها، اتّهم بإعادة بعض بنود الميزانية بعد انتهاء السنة المالية دون الاستفادة منها، واختلف معه بعض مرؤوسيه دون أن ينقص ذلك من احترامهم له.

والواقع أن هذه المدرسة، التي داوم عليها طيلة ممارسته لوظائفه، قد تحوّلت من التندر عليها، إلى مرحلة صار بعض الوزراء يؤمن بها، ويأخذ بها في تطبيقاته، بعدما أصبح بعض مسؤولي أجهزة الحكومة يؤذّن في مالطا، ويغرد بعيدا عن وظائفها الأساسية.

عبد العزيز الخويطر، ظاهرة ظهرت على المسرح الأكاديمي منذ نصف قرن ونيّف (1960) بحصوله على أول شهادة دكتوراه (من بريطانيا في التاريخ) ربما كان محمد بن ليلى سبقه من جامعة لوزان، وكانت جامعة الملك سعود (الأولى في الرياض) وهي في الثالثة من عمرها تنتظر جوادا سعوديا يمسك بمقْوَدها وكان قد سبقه في الإشراف عليها ناصر المنقور ود. عبد الوهاب عزام.

أمضى في إدارتها والتدريس فيها نحو عشر سنوات، ثم صار يتقلّب في مناصب وزاريّة، بدءا بديوان المراقبة العامة، ثم بوزارة الصحة والمعارف والتعليم العالي والمالية، إلى أن انتهى به المطاف وزير دولة، لكن خبرته وعزوفه عن الإجازات والسفر كان يغري زملاءه الوزراء بإنابته عنهم في معظم الوزارات.

وبالإضافة إلى أن الخويطر يمثل الطرف المحافظ في الإدارة الحكومية العليا، فهو في الواقع – بهدوئه وسمته وصمته وبساطته – يمثّل أحد معالم الاستقرار والثبات في الدولة، فهو أكثر من وزير دولة، وأقرب إلى المستشار، إذا ما عرفنا أنه كان يكلف ملفّات سياسية مهمة، أو يُرسل إلى قادة ذوي ميول حادة، أو نهج ثوري، وهو يرأس منذ عقود اللجنة العامة في مجلس الوزراء، التي تقوم بالتحضير لجلساته، ووضع جدول أعماله، والواقع أن الصورة الانطباعية العالقة في أذهان البعض عن انعدام المرونة في نهجه الإداري، لا تخلو من المبالغة، فهو في أحيان كثيرة، وكما عايشته في وزارة التعليم العالي، يكون بالغ الإيجابية، متى ما اقتنع بسلامة ما يعرض عليه من أفكار.

ولد د. الخويطر (عام 1925) في مدينة عنيزة بمنطقة القصيم (300 كلم شمال الرياض) وقد درس الابتدائية فيها، ثم واصل الدراسة في مكة المكرمة، وحصل على الليسانس من جامعة القاهرة (1951) وهو كما جاءت شخصيته مزيجا من تكوين والده المعروف بالحزم والترشيد، ومن سمات والدته (من أسرة القاضي) التي عرفت بالرقّة والبساطة، فإنه قد جمع في ثقافته المبكرة بين نتاج البيئة النجدية والحجازية والمصرية والإنجليزية، في مزيج تجذّر في أعماقه، وصار يغرف منها الكثير من ذكرياته التي يرويها أو يدوّنها إلى اليوم.

ومع أن الدكتور الخويطر، أكاديمي الذهن، سلس العبارة، عميق التحليل، وذو منهج تحريري متميّز، إلاّ أن انهماكه في العمل الإداري والتعليمي قد استغرق وقته في إدارة الجامعة فور عودته، ولم يفسح له المجال للدخول إلى عالم التأليف إلا بعد مرور سنوات على تخرجه، فلقد انقضت تلك المدة دون أن يصدر له سوى تحقيق مخطوطين لمؤرخين نجديين عاشا في القرن التاسع عشر (أحمد المنقور وعثمان بن بشر) وترجمة لأطروحته عن الظاهر بيبرس، ثم تحقيق ديوان الشاعر السعودي محمد بن عبد الله العثيمين، الذي عاصر الملك عبد العزيز ونظم فيه المطوّلات.

لكنه وخلال العقود الثلاثة الماضية، بدأ يركّز جل اهتمامه لإثراء المكتبة العربية بمؤلّفات متعددة الأجزاء، بدأت بكتابه التربوي أي بُني (خمسة أجزاء) ثم بكتابه إطلالة على التراث (سبعة عشر جزءا) وبكتابه التراثي الثاني ملء السلة من ثمر المجلة (ثلاثة أجزاء) وأخيرا بذكرياته التي رصدت سيرة حياته: وسم على أديم الزمن (من سبعة وثلاثين جزءا) وهو مؤلف كشف عن أن كاتبه كان يرصد ومنذ طفولته أدق تفاصيل حياته، وأخذ في تدوينه منحى التسلسل الزمني لسيرته، هذا فضلا عن مؤلفات أخرى ذات موضوعات وطنية واجتماعية كان يفاجئ بها القراء بين الحين والآخر وبعضها متعدد الأجزاء، ومنها على سبيل المثال: يوم وملك، ودمعة حرّى، وهنيئا لك السعادة، وبعد القول قول، ونزّ اليراع، ورصد لسياحة الفكر.

العزاء لحرمه ولإخوته، ولنجله الوحيد محمد ولبناته الثلاث: عبير وأريج ولمى، ولعارفيه، تغمّده الله بواسع رضوانه.