موعد مع الكنبة!

TT

من الأمانة أن أقول إن مقالا للأستاذ غسان الإمام، في هذه الجريدة، هو الذي أوحى إليّ بالفكرة الأساسية في هذه السطور.

كان مقال الرجل على الصفحة المقابلة، وكان عنوانه: «إنجازات حزب الكنبة».. وكان يقوم على حوار بين الكاتب، الذي اعتبر نفسه من حزب النكبة، وشاب ينتمي إلى حزب الكنبة.

وقد أغراني الموضوع بأن أقوم بنوع من الرياضة العقلية، وأن يكون الأساس في هذه العملية الرياضية العقلية، هو السؤال التالي: أيهما كان أولا؛ حزب النكبة، أم حزب الكنبة؟! وبمعني آخر، أيهما كان سببا، وأيهما كان هو الحصيلة؟!

وحين ألقيت نظرة عامة، على ستة عقود مضت من تاريخ مصر، تبين لي، للوهلة الأولى، أن النكبة كانت مقدمة، وأن الكنبة كانت نتيجة.. لا العكس!

فماذا حدث؟! حدث أن قامت ثورة يوليو 1952، بقيادة جمال عبد الناصر، وحدث أنه ألغى أحزابا كانت قائمة، بل ومستقرة، قبل ثورته، وفي مقدمة تلك الأحزاب، كان الوفد، الذي ما دخل انتخابات حرة، قبل الثورة، إلا وحاز فيها الأغلبية المستريحة.

وإذا كان تعبير حزب الكنبة قد شاع فيما بعد ما صار معروفا بيننا بالربيع العربي، في القاهرة وغيرها من عواصم العرب، فإنه لم يكن له وجود فيما قبل «يوليو» كثورة.

ذلك أن حزبا بهذا المسمى، إذا كان يشير إلى الأغلبية الصامتة التي تفضل البقاء على الكنبة في البيت، على أن تذهب لتشارك في أي انتخابات، أو استحقاقات سياسية، فإن مثل هذه الأغلبية لم يكن لها وجود، في ذلك الوقت السابق على ثورة الضباط الأحرار.

وليس أدل على ذلك، إلا أن إسماعيل صدقي باشا رئيس وزراء مصر الأسبق، حين ألغي دستور 1923، في عام 1930. قد واجه رأيا عاما غاضبا ومصمما على إسقاط دستوره، الذي اشتهر بدستور 30، وإعادة دستور 23 من جديد!

واللافت للانتباه، أن نضال الرأي العام وقتها، في سبيل تحقيق مطلبه، قد دام خمس سنوات، إلى أن سقط دستور 30 فعلا، عام 1935، وعاد 23 مرة أخرى.

وليس لهذا معنى، إلا أن حزب الكنبة لم يكن له وجود كبير في ذلك الوقت، ولو كان له وجود، ما عاد دستور 23. ولكان دستور صدقي قد حكم البلاد، ربما إلى قيام الثورة في 1952.

ولهذا السبب، جاء قرار عبد الناصر بإلغاء الأحزاب، بمثابة خلق لحزب الكنبة، من عدم، فالأحزاب النشطة بطبيعتها، ضد فكرة الكنبة، على طول الخط، ولا وجود لهما، في وقت واحد، وإنما إذا حضر أحدهما غاب الآخر.

وإذا كانت النكبة قد حلت بنا في عام 1967. فالعقل يقول إن غياب الأحزاب بقرار قد أتاح الفرصة كاملة لأن تنشأ أحزاب الكنبة في المقابل، إلى أن وقعت النكبة، فخرج عبد الناصر ليحدثنا عن الميثاق، وعن المشاركة، وعن الأحزاب السياسية، غير أن ذلك كله كان بعد فوات الأوان!

قيل إنه كان عازما على التغيير السياسي فعلا، ولكن القدر لم يمهله، فرحل، وفي نفسه شيء مما أراده، كما كان شاعر عربي قديم قد ظل يبحث في أصل وفصل لفظة «حتى».. حتى مات، وفي نفسه شيء منها!

وقد جرب السادات، من بعد عبد الناصر، أن يقاوم أحزاب الكنبة، وأن يكون ذلك بالعودة إلى نظام الأحزاب السياسية، أي إلى ما كان قائما قبل ثورتهم كضباط أحرار، وأغلب الظن أنه كان صادقا، لولا أن صدق النية وحده لا يكفي هنا، وإنما لا بد من ترجمة صادقة أيضا للنية على الأرض.. ولأنه لم يحدث شيء من هذا، ولأن السادات أعاد الأحزاب بقرار منه، فإن الفكرة قامت على الشكل، دون المضمون!

ولا بد أن أي مقارنة بين قرار السادات، بإنشاء الأحزاب، في منتصف عهده، ونشأة الوفد (مثلا) من رحم ثورة 1919. تقول إن الحزب الذي ينشأ من الشارع، يبقى ويؤثر، وإن الحزب الذي ينشأ لقرار علوي، لا يلبث حتى يذوي ويختفي!

ولو شئنا دليلا على ذلك، لكان تعديل دستور 1971، في عام 1980، أقوى دليل.. ففي ذلك العام، جرى تعديل الدستور لينص على بقاء الرئيس في منصبه، إلى أمد مفتوح، ودون سقف، فلا يتقيد بمدتين فقط، مدة ست سنوات، كما كان الدستور ينص قبل تعديله.

جرى التعديل، أو بمعنى أدق الاعتداء على روح الدستور، فلم يتحرك أحد، أي على العكس تماما مما تصرف به المصريون عام 30 مع إسماعيل صدقي، بل صفق البعض لما جرى عام 80، وكان معنى هذا بوضوح أن حزب الكنبة كان قد نشأ مع النكبة، بل قبلها، ثم نما، وصار أعضاؤه بالملايين!

وإذا كانت مصر على موعد مع شيء، اليوم، وغدا، في سباق الرئاسة، فهي على موعد مع حزب الكنبة، ليفارق مكانه، لا لشيء، إلا لأن خروج هذا الحزب، من محله المختار، في كل بيت، هو الضمانة الوحيدة، والأقوى، لئلا تستيقظ على نكبة أخرى، لا قدر الله.

ومن أطرف ما جرى في هذا السياق، أن عجوزا مصرية حملت كنبتها من بيتها، في يوم من أيام ثورة 30 يونيو، ثم استرخت متكئة فوقها، في واحد من ميادين القاهرة، وكانت صورتها فوق الكنبة مثار تعليق واسع في وقتها، وإذا كانت 11 شهرا قد مضت، منذ تلك الواقعة الطريفة، فلا بد أنها فترة كافية، لأن تنتقل الكنبة، بالمرأة وغيرها، من البيت، بل من الميدان، لتكون أمام كل صندوق اقتراع!