جودار وتصفيق النقاد!

TT

عدد من الأعمال الفنية يصبح عند البعض «ترمومترا» لقياس الجودة الفنية، وأسماء مبدعين تتحول مع الزمن إلى أيقونات ممنوع الاقتراب منها بالنقد، في عالمنا العربي كان يوسف شاهين يتمتع بتلك الحماية، وفي فرنسا جان لوك جودار، عرض له رسميا بمهرجان «كان» الذي انتهت فعالياته قبل ساعات فيلمه «وداعا للغة»، حيث أصبح الشريط السينمائي وتفسيره «مسؤولية كل مشاهد»، بعض النقاد تجدهم ينحازون إلى مثل هذه الأعمال حتى لا يتهمهم أحد بالجهل.

قبل أكثر من نصف قرن أراد الكاتب الساخر الكبير أحمد رجب متعه الله بالصحة والعافية أن يكشف إلى أي مدى يتحذلق بعضهم في كتاباتهم التحليلية وكان وقتها قد بدأ عدد من المثقفين يتداولون مفاهيم مسرح العبث واللامعقول، وكالعادة هناك من تجدهم مثل «كذابي الزفة» وكما يقول المثل اللبناني «له في كل عُرس قُرص».

كتب أحمد رجب مسرحية أطلق عليها «الدخان الأسود» كانت مجرد كلمات بلا رابط ولا منطق وأطلع عليها عددا من النقاد قائلا إنها من تأليف صموئيل بيكت وإنه فقط ترجمها للغة العربية، ووقع في المصيدة عدد كبير منهم وشربوا المقلب واعتبروها تحفة رائعة، وأنتم بالطبع تعرفون الباقي حيث تولى رجب فضحهم على صفحات الجرائد.

شهدت السينما منذ البدايات محاولات لا تنتهي من الإضافات تطورت من خلال خطين متوازيين؛ هما زيادة مساحات التقنية في الآلات المستخدمة وكذلك نضج الأفكار على الشريط السينمائي. مثلا المخرج الساحر الفرنسي جورج ميليس أضاف الكثير للكاميرا وكان يلون الأشرطة بيديه في فيلم مارتن سكورسيزي «هوغو» الذي عُرض قبل عامين تناول جانبا من حياة «ميليس»، ولهذا دخل التاريخ لأنه أضاف إبداعا تقنيا وخيالا، ومع الزمن عرفت السينما الصوت والألوان والكومبيوتر والصوت الدولبي ووصلنا إلى سينما الأبعاد الثلاثة ولن تتوقف المسيرة، دائما هناك أفكار علمية تمنح السينما إبهارا.

إلا أن السؤال هل أي خروج عن المألوف هو بالضرورة فن؟ الإجابة بالقطع لا، يجب أن تتحدد وجهة النظر قبل أن تضع الكاميرا. الفن الارتجالي لم يكن مجرد خروج على النص بل ارتكن إلى خطوط عريضة تحكم التتابع، وبعد ذلك تمنح الممثل مساحة مقننة من الإضافة وهي بالتأكيد ليست عشوائية؛ ولكنها تخضع لقانون فني وفكري.

شاهدنا عبر التاريخ بعض المخرجين يلجأون مثلا إلى تقييد الزمان والمكان في السينما مثلما في الفيلم البريطاني «12 رجلا غاضبا» لسيدني لوميت الحاصل على الأوسكار في نهاية الأربعينات، وما قدمه المخرج صلاح أبو سيف بعد ذلك بعشر سنوات في فيلمه «بين السماء والأرض» حيث كان الزمن في الفيلم الأول محددا بإطار الواقع وهو مداولات هيئة المحلفين وكان الزمن في الثاني محكوما ببقاء ركاب المصعد أثناء إقامة مباراة كرة القدم، كان هناك منطق حكم هذه الرؤية.

قد يرى البعض فيما شاهدناه في فيلم «جودار» المصور طبقا لتقنية الأبعاد الثلاثة ما يمكن أن نطلق عليه جنون الفن، وكأنه يحاكي المقولة الشهيرة الفنون جنون. حاولت أن أجد رابطا بين الشخصيات الرئيسة الثلاثة في فيلم جودار الرجل العازب والمرأة المتزوجة والكلب المحتار بين فصول السنة ثم في النهاية اختلاط بكاء طفل مع نباح كلب وصفقات مالية، وكل يفسر الفيلم والشخصيات كما يحلو له، بالنسبة لي لا أخجل أن أقول لكم إنني لم أجد ما يروق لي في هذا الفيلم رغم أن كُثرا من النقاد ظلوا يصفقون لعبقرية المخرج عشر دقائق متواصلة!.