البحرين: ثقافة الرقي!

TT

وسط الأحداث والأخبار السلبية في بلدها، تحاول وزيرة الثقافة البحرينية استغلال المزايا الهائلة في البحرين لإبرازها بمفهوم وخطاب ثقافي راقٍ وجذاب. وقد كانت لي فرصة متابعة هذا الأمر خلال مشاركتي في مناسبة ثقافية كمتحدث فيها بالبحرين. والبعدان الثقافي والإنساني لوزيرة الثقافة بالبحرين مكناها على الصعيد الشخصي من أن تنجز، في فترة وجيزة من الزمن، ما فشلت في عمله وزارات متتالية في دول عربية من تطوير جيد للحراك الثقافي المؤسساتي وتطوير الصورة الذهنية في بلد خليجي صغير بحجمه.

البحرين والحراك الثقافي المميز فيها حوّلها بهدوء إلى قلب البوصلة الثقافية الأولى في العالم العربي، فحجم البرامج ونوعيتها وتواصلها المستمر لم يعد فقرة استثنائية في مسيرة البحرين الثقافية أو مسألة مؤقتة، ولكن الشيخة مي تمكنت من أن تجعله مركبا أساسا في الهوية الجديدة المنشودة للبلاد، فهي تمكنت من دعوة نجوم مهمين من الصف الأول في عالم المسرح، والغناء، والموسيقى، والفن التشكيلي والاستعراضي، حتى تحولت البحرين إلى نقطة جذب، وحفرت مكانتها على خريطة العالم الثقافية. اهتمت الوزيرة بالثقافة بشقيها: المادي واللامادي، كإحياء الآثار، وإبراز هوية البحرين التعددية الثرية، وترميم المباني القديمة، وهذا الجزء بالذات الخاص بترميم المباني القديمة كان حلم حياتها، وبخطوات حكيمة ومدروسة وبجهد خاص وتمويل شخصي منها، كانت تشتري منازل قديمة في مدينة المحرق بالأحياء الشعبية التي شهدت بروز أباطرة التجارة في البحرين، ودور الملتقيات الاجتماعية والثقافية بشكلها المبسط وقتها، وكانت ترممها لتحولها إلى مزارات ثقافية في منتهى الحس الجمالي الراقي، ومنها ما جرى تحويله إلى مطاعم، ومقاه، وفنادق، وقاعات محاضرات، جميعها نفذ على أعلى مستوى من الذوق والأناقة والاهتمام بالتفاصيل الصغيرة والدقيقة والبساطة المميزة، لتتحول هذه البيوت مع الوقت إلى قبلة ثقافية لكل زوار البحرين، وملتقى أسبوعي يواظب عليه الحضور القادم من خلفيات ثقافية واجتماعية واقتصادية مختلفة، يلتقون جميعا هناك على حب التلقي والتعلم والمعرفة، وهم يلتقون في البحرين ما بين مقيم فيها وزائر إليها بشكل أخاذ وراق دون ابتذال ولا مبالغة في الحدث.

أطلقت الشيخة مي، بهدوء، صادرات غير مسبوقة في العالم العربي، أساسها هو «الاستثمار في الثقافة»، وهي فكرة جديدة تماما، لأن رأس المال عموما في المنطقة العربية، وفي منطقة الخليج العربي منه تحديدا، حذر جدا في الاستثمار والإنفاق على النشاط الثقافي، لأنه كان يعتبر ذلك «مضيعة للوقت وبلا فائدة مرجوة منه أبدا». أحيت بنشاطها وحماسها الحراك الثقافي، وأعادت الحياة للمتحف الوطني والمسرح الوطني، وشجعت بشكل ذكي كل الشركات الوطنية لكي تشارك في رعاية وتمويل ودعم المشاريع الثقافية في البلاد، واعتبار عزوف الشركات عن هذه النوعية من الأعمال بمثابة عيب. لدى الوزيرة المزيد من الأفكار والأحلام والطموحات والآمال، ولا يمكن المراهنة عكس توجهها، كما فعل كثيرون في السابق في محاولات لإثنائها عن توجهها.

البحرين تصر على تقديم نفسها نموذجا للتعايش والتسامح والحلم الممكن وسط الأخبار الكئيبة والمزعجة التي تملأ العالم العربي، وتقدم لنا الشيخة مي آل خليفة نموذجا ناجحا لتحقيق الحلم وتحويله إلى واقع يفيد الجميع وسط تحديات وطموحات صعبة. كل الشكر والتقدير والاحترام لسيدة تحقق الخيال في العالم الصعب.