سلام آيرلندا المقلق

TT

في مثل هذا اليوم قبل أربعين عاما انفجرت ثلاث قنابل دون إنذار في دبلن. وبعد أقل من ساعة مزقت قنبلة أخرى بلدة موناغان الريفية الهادئة. وأدت تلك التفجيرات إلى مقتل 33 وإصابة أكثر من 300 شخص. وفي دبلن غُطيت أشلاء الضحايا بأوراق الصحف لحجبها عن أعين المارة. وتصدرت أخبار القتلى عناوين الصحف.

لكن كان المزيد من عناوين الصحف الدموية في الانتظار، إذ فقد 3600 شخص حياتهم خلال الأربع والعشرين سنة اللاحقة فيما عرف مجازا بـ«الاضطرابات» الآيرلندية.

وانتهت تلك الاضطرابات باتفاقية السلام التاريخية عام 1998، والتي صمدت بصورة أو بأخرى منذ ذلك الوقت. لو كان السلام الآيرلندي وقتها طفلا صغيرا لأصبح الآن في سن ما قبل المرحلة الجامعية، أو ربما على رأس العمل، أو مما يخيف أكثر في طابور البطالة.

ولا نزال غير قادرين على الانعتاق من الماضي وتذكر أن السلام مهما أصبح ناضجا يبقى دائما في خطر التعثر أو الانهيار. كما أن من الممكن استثمار العدالة لتصبح انتقاما.

قبل فترة اعتقل زعيم حزب الشين فين الوطني الآيرلندي جيري آدم، وجرى التحقيق معه لمدة أربعة أيام حول اختطاف وقتل جين ماكونفيل، وهي أم لعشرة أطفال اختفت قبل أكثر من 40 عاما، وعُثر على جثتها على شاطئ بعد أن كشفت عنها الرياح قبل 11 عاما، وكان هناك أثر طلق ناري خلف جمجمتها. في شارع فولس رود الوطني في بلفاست رسمت جدارية لجيري آدم، عليها صورته وكتب عليها «صانع السلام، الزعيم صاحب الرؤية». ويقول ميرفين غيبسون قسيس جمعية اللون البرتقالي البروتستانية: «للأسف، ليست هذه جدارية تذكارية».

واعتبر الآيرلنديون الاعتقال عملا مذلا قبيل الانتخابات المحلية والأوروبية. ومن ناحية أخرى، اشتاط المخلصون لبريطانيا غضبا لأنه بينما اعتقل جيري آدم للتحقيق معه كتبت الحكومة البريطانية 200 رسالة إلى الهاربين المتهمين بعضوية الجيش الشعبي الآيرلندي تفيد بعدم مقاضاتهم.

في غضون ذلك، تسممت الأجواء بشكل ملحوظ بين الزعماء داخل الفرع التنفيذي المشترك في السلطة بآيرلندا الشمالية، مع تبادل الوزير الاتحادي الأول بيتر روبنسون ونائب الوزير الأول مارتن ماكغينيس من الشين فين، الاتهامات بـ«الجبن» والتهديدات بالاستقالة بسبب هجمات يُتهم مسلحون موالون لبلفاست بالقيام بها. وهناك إحساس مشترك لدى الطرفين بأن الحكومة البريطانية بالذات انصرفت خلسة دون النية بالنظر إلى الخلف.

قد يكون السلام صامدا، لكن العملية تتعثر، فقبل خمسة أشهر فقط فشلت الأحزاب السياسية في الاتفاق على مقترحات قدمها المبعوث الأميركي لعملية السلام ريتشارد هاس. وكانت أبرز العقبات هي مسائل الإعلام والطوابير وكيفية التصالح مع الماضي، وتحديدا من خلال «وحدة التحقيقات التاريخية» التي ستجري التحريات حول أعمال القتل المتعلقة بالاضطرابات.

وترك هاس خلفه بلدا من الواضح أنه غير واثق من نفسه. وازدادت الاستثمارات في آيرلندا الشمالية خلال السنوات الأخيرة، وانساب جو من الألوان والسحر على الشوارع واختفت نقاط التفتيش وكثرت المهرجانات. ومرور ستة عشر عاما من السلام يعني وجود جيل كامل تربى دون «صلوات العنف» اليومية.

وفي الوقت ذاته، يعيش الكثير من الكاثوليك والبروتستانت في قلاع صغيرة مغلقة ويدرس أطفالهم في مدارس منفصلة. وفي بلفاست حدثت موجة من الهجمات التي تدفعها كراهية الأجانب ضد مواطنين من أوروبا الشرقية مع عبارة «السكان المحليين فقط» على الألواح الخشبية التي وضعت مكان النوافذ المحطمة.

وتندلع بعض أحداث العنف البسيطة بصورة منتظمة كل عام تقريبا، عند الاختلاف حول الطرق التي تسلكها طوابير العرض وسياسة الإعلام، الذي لا يزال سببا لانطلاق قنابل المولوتوف. السماء صغيرة فوق آيرلندا الشمالية، لكن هناك الكثير من الدخان عليها.

ولا يزال الشعب في آيرلندا وبريطانيا يريد بشدة استمرار السلام، فهو واحد من الأشياء القليلة التي أحسنا صنعها خلال السنوات القليلة الماضية، وهو سلعة أخلاقية استثمرنا الكثير من الجهد فيها، والسلام يجعل مظهرنا حسنا.

وإن تعثر السلام فستكون تلك مصيبة ليس علينا فحسب، بل على العالم أجمع. السلام ليس شأنا محليا، وذلك ما يجعله يتفوق على الحرب، فالحروب تظل حيث تكون، أما السلام فيخص أماكن أخرى إضافة إلى الوطن، وذلك جزء من قوته. فالسلام في آيرلندا مهما كان هشا خط حياة لسوريا وأوكرانيا وكولومبيا.

لكن الشعور بالإنهاك في آيرلندا الشمالية عبارة عن قنبلة زمنية تديم وجودها. وليس هذا مجرد جدل سياسي بسيط، فالسلام خاصة في عمر 16 سنة، يكون له غرور وقد يغلق عقل حساباته ويسقط في مستنقع الرضا عن نفسه. إنَّ صُنعَ سلامٍ مستمرٍ يعني أنه ستكون هناك دائما عدة حقائق قابلة للنمو. وعَلِمَ صانع السلام جورج ميتشيل الذي فاوض عملية السلام عام 1998، أن عليه إظهار صلابة المتعصب.

من السذاجة بالطبع توقع مصالحة تامة، فإن بعض التظلمات من العمق بحيث لا يمكن إرضاء من عانوا بسببها أبدا. ولكن العبرة ليست بالرضا، العبرة هي أن الحاضر فوق الماضي ويجب استثماره على هذا الأساس.

وعلى الرغم من حقيقة أن إدارة الرئيس أوباما لم تعين سفيرا لدى آيرلندا لمدة عام ونصف العام (وهي أطول فترة لا يكون فيها للولايات المتحدة دبلوماسي عالي المستوى في دبلن) فلا يزال دور البيت الأبيض حيويا في الحفاظ على السلام وتجديد طاقته.

كانت هناك فيما مضى طلقات خلف الرأس وسيارات مفخخة على شارع ساوث لينستر، وكانت هناك فتيات صغيرات يتعرضن للإذلال بدهنهن بالقطران (الزفت) وإلصاق الريش عليهن في بلفاست، لكن ذلك لم يعد يحدث ثانية، ولكن ليس لأنه لا يحدث اليوم، فهذا يعني أنه لن يحدث مرة أخرى. إن فقدان عملية السلام الآن يعد جريمة دولية تمتد آثارها إلى الماضي وإلى المستقبل معا..

* خدمة «نيويورك تايمز»