المرأة المستحيلة

TT

كانت مديرتي الأولى في صحيفة «واشنطن بوست» امرأة مستحيلة.. متقلبة وكتومة، وهي ميغ غرينفيلد محررة الكلمة الافتتاحية للعدد.. كانت من نوع المديرين الرهيبين. كانت تعرف كيف توظفنا، ولكنها لم تعرف كيف تعتني بنا وتوجهنا أو تفصلنا.. أو ربما لم تكن ترغب أن تتعلم ذلك.

وإذا ارتكبت خطأ أو أهملت شيئا أو لم تتابع أمرا أو حتى وضعت كثيرا من العطر، فإن ردها على ذلك هو المعالجة الصامتة.. وكان هذا نوعا من البرود العميق الذي قد يستمر لأشهر. وأعتقد أن أحد المحررين قضى أكثر من سنة مدفونا في الجليد.

وظفتني ميغ محررة مساعدة عام 1979 بعد مقابلة توظيف استغرقت 20 دقيقة ناقشت خلالها معي العرض التلفزيوني «دالاس»، وكم سنة درست اللغة اللاتينية، ومتى يمكنني بدء العمل. وأوصت بي أكبر محررة أخبار، وكانت بحاجة لموظف فورا.

وكانت سمعة ميغ سبقتها، ولذلك لم أبدأ عملي وأنا جاهلة بالتحديات. وكان رسم كاريكاتوري فوق مكتبها يمزح قائلا: «ليس عندها انهيارات عصبية، فهي التي تسببها». وكانت مهمتي تحرير صفحة الرأي مع اثنين من المحررين الآخرين.. الخطابات التي ترد إلى رئيس التحرير وكلمة العدد، على الرغم من أن كلمة العدد لم تكن تحتاج لكثير عمل بمجرد أن تفرغ ميغ من كتابتها.

وكنا نحن المحررين الثلاثة نجلس في مكتب طويل مفتوح ونستخدم نظام اتصال داخلي. وكانت ميغ تضغط الجرس لأحدنا ليذهب إلى مكتبها لأخذ صفحة، وأحيانا لسؤالنا عن رأينا في مقال معين. وكانت تلك هي الطريقة التي تلعب بها لعبة التفضيل للذي يحصل منا على ضغطات جرس أكثر خلال اليوم؟

خلال سنتي الأولى مع ميغ نقص وزني 15 رطلا (رب ضارة نافعة). وتعرضت مرة للتجميد لمدة أسبوعين، لأنني أغفلت خطأ ارتكبه أحد غيري. وخلف التوتر بسبب كل ذلك خيطا كبيرا من التجاعيد على جبهتي.

كانت ميغ سيدة ذكية ومرحة وساحرة.. محررة بغرائز بحد السيف وإلمام هائل بالسياسة والسياسة الخارجية والأخبار الداخلية. عن طائرات الإنذار المبكر مثلا تستطيع ميغ رسم صورة الطائرة لك. فك شفرة وأسرار موازنة الكونغرس.. تستغرق ميغ 20 دقيقة وتقول لك ماذا يحاول الكونغرس أن يخبئه، وكان جهاز رادارها لا يخيب. ولم تأخذ أبدا عطلة نهاية الأسبوع، لأنها كانت تعتقد أن الإدارة وأي إدارة تصدر التقارير المثيرة للجدل عندما يكون كبار المحررين غائبين ويكون «المتدربون هم الذين يديرون الصحيفة»، فكانت ميغ تبقى حارسة.

كانت الافتتاحيات تكتب في تلك الأيام على أجهزة كومبيوتر بدائية، وكان الكتاب يضعون صفحات غير واضحة من طابعات «دوت ماتريكس» على مكتب ميغ. وكانت تبدأ ميغ عملها بقلم أسود ونقوم بتفسير العلامات بعد ذهابها.

وكانت مشاهدة ميغ وكيف يعمل عقلها وروعة اختيارها للمفردات والأساليب الفنية التي تحقق بها التوازن والإنصاف، تعد في حد ذاتها تعليما في التفكير والكتابة والصحافة.

كنت أراجع وأراجع كل شيء ثلاث مرات، إضافة إلى نقل ملاحظاتها من الورق إلى نظام الكومبيوتر، وإذا أخطأت في تضمين أحد تغييراتها، فإنني أعلم أن ذلك يعني أسابيع من الحصار الجليدي.

عندما أصبحت مستعدة لمغادرة صفحة الافتتاحية بعد سنتين ونصف، ساعدتني ميغ في الحصول على وظيفة أخرى بالصحيفة. وأصبحت صديقتها، وأينما كان موقع عملي في غرفة الأخبار، كنت أتلقى أحيانا مكالمة من سكرتيرة ميغ: «مس غرينفيلد تريد رؤيتك». وكنا نجلس في مكتبها ونتحدث عن تونيا ونانسي أو بعض عروض التلفزيون القديمة. يخلق تعليمي الكاثوليكي لدي استعدادا مسبقا للاعتقاد بأن المعاناة من عناصر تكوين الشخصية وطريقة مهمة لتحقيق الأهداف الأسمى، لكن كلما امتد تقدمي في وظيفتي بغرفة الأخبار، وصعدت أكثر في السلم الوظيفي، ازداد إعجابي بميغ وفهمها، وتمنيت أن أكون مثلها في بعض النواحي.

ماذا عن غرف الأخبار الأخرى وغيرها من النساء والمديرات؟ لا أعرف عنهن شيئا بأمانة.. أنا هنا فقط لأقول إن امرأة مستحيلة شكلت حياتي بصورة لن أنساها أبدا.

* خدمة «واشنطن بوست»