في أحضان أبو الهول

TT

لم أصدق عيني وأنا أرى أكثر من مائة طفل مع عائلاتهم مصطفين في طابور طويل، وذلك من أجل حجز ليلة للمبيت داخل متحف جامعة بنسلفانيا بمدينة فيلادلفيا. وعندما سألت عن السبب علمت أن المتحف يسمح للأطفال بحجز ليلة للنوم بجوار تمثال أبو الهول للملك مرنبتاح، والذي يعد ثالث أضخم تمثال لأبو الهول بعد أبو الهول الجيزة وأبو الهول المتحف البريطاني.

القصة تبدأ من متحف جامعة بنسلفانيا، حيث يتكون المتحف من قاعتين بهما آلاف القطع الأثرية من نتائج حفائر جامعة بنسلفانيا في منطقة ميت رهينة، وهي جزء من العاصمة القديمة منف التي تأسست مع بداية نشأة الدولة المصرية القديمة. وفي ميت رهينة استطاعت البعثة الأثرية للجامعة بقيادة كلارنس فيشر سنة 1915 الكشف عن قصر كامل للملك مرنبتاح، وهو ابن الملك رمسيس الثاني من الأسرة التاسعة عشرة. وفي ذلك الوقت حصلت الجامعة على إذن مصلحة الآثار المصرية للحصول على أعمدة القصر وبعض من عناصره المعمارية البديعة، بالإضافة إلى تمثال لأبو الهول يمثل الملك مرنبتاح.

وقد بدأت شهرة هذا التمثال في الوقت الذي كنت فيه طالبا أدرس للحصول على درجة الدكتوراه من جامعة بنسلفانيا، حيث سألتني مديرة المتحف فيبي رزنك عمل شيء لجذب الناس لزيارة المتحف ودعمه، وكنت ومعي طلبة الدراسات العليا نقوم بإلقاء المحاضرات في المكتبات العامة بولاية بنسلفانيا لدعوة الناس لزيارة ودعم متحف الجامعة. واقترحت على السيدة فيبي أن يحتفل المتحف كل عام بعيد أبو الهول، وبعد أن أعجبت بالفكرة تم الإعلان عن العيد الأول الذي حضره حينها السفير عبد الرؤوف الريدي سفير مصر في واشنطن في ذلك الوقت. ولا يزال المتحف يحتفل سنويا بعيد أبو الهول الذي يمثل ذكرى الكشف عن التمثال لأول مرة.

نعود لمسألة مبيت الأطفال بالمتحف، فبالطبع يحق لكل طفل بالمدينة حجز ليلة واحدة للمبيت فيها بجوار أبو الهول مع أبيه أو أمه، ويقدم المتحف للطفل يوما ثقافيا عن تاريخ المتحف وقصة الآثار الموجودة به، وكيف جاءت إلى المتحف، كما يقوم أمناء المتحف وطلاب الدراسات العليا بتعليم الأطفال مبادئ اللغة المصرية القديمة وكتابة أسمائهم بالهيروغليفية.

وبهذه الفكرة البسيطة ضمن متحف جامعة بنسلفانيا كسب ولاء وعاطفة كل أجيال المستقبل، وبالتالي استمرار العلاقة بين المتحف وسكان مدينة فيلادلفيا. وجميع متاحف العالم تتحايل وتأتي بأفكار من أجل جذب الناس لزيارتها ودعمها؛ لأن متحفا من دون زوار كبيت مهجور بلا سكان. وقد تكشّف رغم كل محاذير الزيارة الكثيفة لمتاحف الآثار أن أكثر المتاحف زيارة هي أكثرها نظافة ورعاية وصيانة للآثار بها، والعكس صحيح، فالإهمال وعدم الاهتمام يضرب بالمتاحف التي لا تزار. الغريب والمحزن أننا نعيش في بلادنا بالشرق الأوسط، وهو ما يعرف أيضا بالشرق القديم مهد الحضارات القديمة ومصدر الكنوز والآثار الموجودة بمتاحف العالم، ومتاحفنا لا تزار!!

لا بد من تطوير الإدارة والفكر عندنا، ولا أقصد بذلك جلب مديري متاحف إنجليز، فهؤلاء يأتون من أجل الراتب الكبير؛ ولو كان بهم خير ما تركتهم متاحف بلادهم. المشكلة أننا لا نثق في أفكار شبابنا، ويسيطر علينا الجمود، فهل نعي يوما الدرس؟