تغطية الانتخابات الأوروبية تضليل للمشاهد

TT

في تغطية الصحافة العربية، خاصة التلفزيونية، لانتخابات البرلمان الأوروبي الأخيرة، تلاحظ تعبيرات منقولة بترجمة مفهومية خاطئة تضلل المشاهد العربي، الذي تصدم عيناه وأذناه بما يمكن تلخيصه في:

صعود «اليمين المتطرف» في البرلمان الأوروبي (نسبة هذه اليمين لا تزيد على 7.3 في المائة من مقاعد المجلس) مشكلا تهديدا للمهاجرين، خاصة العرب والمسلمين، وقد يتعرضون للاضطهاد وترحيلهم قسرا من أوروبا.

الصحافيون العرب ترجموا، خطأ، تعبير «Far - right» باليمين المتطرف Extreme Right، بدلا من التعبير الأكثر دقة «اليمن الأكثر تشددا»، أو حتى «أقصى اليمين».

وضع معدو البرامج العرب كل الأحزاب من يمين الوسط إلى أقصى اليمين في سلة واحدة، بلا عناء دراسة برامجهم وتاريخهم في إطارها القومي (وليس الأوروبي أو العالمي).

كما خلطت المحطات العربية بين قضايا الهجرة (وهي داخلية بين بلدان الاتحاد الأوروبي، ولا علاقة لسلالة أو دين المهاجرين بها)، ورفض الناخب لمشروع المفوضية الأوروبية غير المعلن لتحويل ما كان سوقا مشتركة إلى دولة فيدرالية، على نمط الاتحاد السوفياتي السابق.

ولم تتناول هذه البرامج قلق ناخبي كل البلدان (باستثناء ألمانيا وإيطاليا) من غياب ديمقراطية المشروع الفيدرالي بقيادة مفوضية أوتوقراطية غير منتخبة، وغير خاضعة لمحاسبة ممثلي الشعوب.

مثلا تقرير لفضائية عربية ساوى بين حزب الجبهة القومية الفرنسي National Front وحزب استقلال المملكة المتحدة UKIP، اختصارا لكلمات United Kingdom Independence Party.

التفسير في اسم الحزب الذي يحذر من المشروع الفيدرالي حوّل المملكة المتحدة إلى ما يشبه جمهورية موز تابعة لمفوضية بروكسل، التي تتناقض طريقة عملها مع الديمقراطية البريطانية البرلمانية العريقة.

فالقرارات في بريطانيا من مستوى تنظيف الشوارع إداريا، حتى الموازنة العامة، أو خوض الحرب، مصدرها مجالس تشريع منتخبة، ابتداء من النقابات المهنية والعمالية، مرورا بالمجالس البلدية، إلى مجلس العموم (البرلمان).

أما الجبهة القومية الفرنسية، فقضيتهم الأولى الهجرة، أو في الأعداد الكبيرة من المهاجرين من الشمال الأفريقي (كلمة عرب عند الفرنسيين لا تعني الخليجيين، كما هي عند البريطانيين والمصريين مثلا، وإنما تعني الوافدين من المناطق التابعة لفرنسا سابقا، كالجزائر والمغرب وتونس).

حزب UKIP البريطاني يرفض التنسيق والتعاون مع الجبهة القومية الفرنسية، التي يعتبرها ذات ميول عنصرية، لاستهدافها مجموعة عرقية ثقافية، هي الشمال أفريقيون. وربما الأقرب للجبهة القومية الفرنسية (من ناحية مناهضة الهجرة، وليس آيديولوجيًا) حزب الشعب الدنماركي، أو حزب القبة الذهبية في اليونان، وهو لم يفز بأغلبية أصوات كبيرة، وإنما الذي فاز حزب سيريزا اليساري، مما يقوض فكرة اتجاه أوروبا لليمين «المتطرف» فقط.

قضية الهجرة كانت حاضرة في الجدل الانتخابي في بريطانيا، لكن تركيز الصحافة التلفزيونية العربية عليها بوصفها أولوية انتخابية في أوروبا تضليل للمشاهد.

«المؤسسة السياسية» البريطانية، أي الأحزاب الكبرى وصناع الرأي العام، في الصحافة القومية والـ«بي بي سي»، ركزوا على قضية الهجرة لمحاولة إقناع الناخب بأن حزب UKIP عنصري ضد المهاجرين، في حين أن تركيز الحزب كان على ضرورة إرغام الحكومة على إجراء استفتاء على البقاء في الاتحاد الأوروبي بصيغته الفيدرالية (مثلما وعدت حكومة توني بلير العمالية، لكنها حنثت بالوعد، ثم وعد المحافظون، بزعامة ديفيد كاميرون، ثم رجع عن وعده بعد الوصول للحكم).

المحافظون وجدوا في حزب استقلال المملكة المتحدة تهديدا لهم لأن مبادئه كانت المبادئ الأصلية للمحافظين، التي أغضب كاميرون الناخب التقليدي بالتخلي عنها، ومعظم قياداته منشقة أصلا عن المحافظين.

أما العمال والصحافة اليسارية (كالـ«بي بي سي» والـ«غارديان») فرأوا في الحزب تهديدا لمشروعهم الفيدرالي الأوروبي (اليسار البريطاني مع الوحدة الفيدرالية وجمهوري النزعة، وحزب الاستقلال ملكي ضد الفيدرالية الأوروبية)؛ فركزوا على قضية الهجرة لتحويل الجدل والأنظار بعيدا عن قضية عدم ديمقراطية الاتحاد الأوروبي.

اتحاد يمين ويسار المؤسسة السياسية لشيطنة الحزب في أذهان الناخب جاء بنتائج عكسية، فإحساس الإنجليزي بالعدالة Fair - play يدفعه للتعاطف مع مَن تعرض لمنافسة غير شريفة. كثير من أعضاء UKIP مسلمون من عرب وأفارقة وهنود، وقد عارض الحزب بشدة اشتراك بريطانيا في حربي العراق وأفغانستان.

تعامله مع قضية الهجرة غير عنصري، لأنها هجرة من بلدان أوروبا (غالبا الشرقية والجنوبية)، وهم ذوو بشرة بيضاء من سلالة البريطانيين نفسها. اللوائح التي فرضتها بروكسل تتيح لمهاجري أوروبا الشرقية استغلال إعانات دعم المحتاجين والبطالة السخية في بريطانيا، وتسمح بحرية تحرك عصابات الاحتيال وشبكات التهريب والدعارة الأوروبية.

الحزب يرفض الفيدرالية الأوروبية، ويدعو للعودة لسوق الكومنولث، ويرحب بمهاجرين عرب ومسلمين من المناطق التي لها علاقات تاريخية مع بريطانيا، كالهند والبلدان العربية، مثلما قالت المحامية إليزابيث جونز، مرشحة الحزب للـ«بي بي سي»، الجمعة 23 مايو (أيار)، فالمهاجرون العرب يزيدون اقتصاد بريطانيا ثراء كمستثمرين، وعلى مستوى عالٍ من التعليم (عشرات الآلاف من أطباء مستشفيات بريطانيا مصريون وهنود وعراقيون)، وهو ما فات الصحافيين ومعدي البرامج العربية ملاحظته، إلى جانب أن حزب UKIP كان الوحيد بين الأحزاب البريطانية (بجانب أحزاب يمين في وسط أوروبا)، الذي يحذر من أن واشنطن، بخطة الهيمنة الأميركية على وسط وشرق أوروبا، تدفع بقوة بمشروع الدولة الفيدرالية الأوروبية، ليكون دعامة اقتصادية لبسط نفوذ حلف الناتو، حيث إن بلدان حلف وارسو السابق، وجمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق التي ابتلعها الاتحاد الأوروبي (كجمهوريات بحر البلطيق وبولندا) تتمركز فيها أسلحة الناتو بتمويل أوروبي، وتهدد توازن التسلح الدولي في غير صالح روسيا، وكان هذا سببا مباشرا في الأزمة الأوكرانية؛ فمحاولات ضم أوكرانيا للاتحاد الأوروبي، مما يعني رسو سفن الأسطول الأميركي السادس في ميناء سباستبول، وتهديد أسطول البحر الأسود، هي ما دفعت بالمنشقين الروس إلى فصل القرم وإعادة شبه الجزيرة إلى روسيا.

الأحزاب اليسارية والليبرالية أخفت هذه الحقائق عن الناخب، بينما أشهرتها أحزاب اليمين، مثل UKIP في وجه الخصوم الفيدراليين الأوروبيين.

حقائق لم تتناولها التغطيات الصحافية العربية التي نقلت، بسطحية، من الصحافة اليسارية الأوروبية، بلا فهم عميق لديناميكية الصراع السياسي والتيارات الاقتصادية في المجتمع. فلقرابة أربعة عقود، تحرك بندول المقياس السياسي في البرلمان الأوروبي والمفوضية من الوسط إلى اليسار بأضعاف النسب الكمية (48 في المائة يسارا، 7.3 في المائة يمينا) والمسافة الكيفية التي تحرك بها إلى اليمين في الانتخابات الأخيرة، ولم نسمع مرة واحدة تعبير «نجاح أحزاب أقصى اليسار» أو «اليسار المتطرف».