استعراض السفارة

TT

تكشّف يوم الثلاثاء الماضي، أن كل الفئات السياسية اللبنانية تستغل النازحين السوريين. لكل طريقته ومدرسته، لكن النتيجة واحدة.

لم يكن ذاك الصباح عاديا لغالبية اللبنانيين، بالتأكيد. بدا المشهد صادما. جحافل السوريين المتوجهة إلى السفارة لانتخاب رئيس للجمهورية، لم تزحف بصفة أفرادية. كان ثمة ما يشبه تظاهرة ضخمة فيها من التواطؤ والاستعراض الاستفزازي الجماعي، أكثر مما فيها من التعبير الذاتي والشخصي عن رأي. حشود هائلة، أغلقت الطرقات، هتافات، صور، أعلام، شعارات مؤيدة للرئيس السوري، وعائلات بأكملها، بكبيرها وصغيرها، جاءت قصدا لتضخيم العدد. كان الجمع خليطا من ناخبين جاءوا على مضض ليحفظوا رؤوسهم، ولتأمين عودة سالمة لديارهم، ومؤيدين للنظام، وفئات أتت خصيصا لإحداث المفاجأة التي لم يكن يتوقعها أحد، بما في ذلك الجيش والقوى الأمنية. كان على اللبنانيين أن يكتشفوا، ذات صباح، بأن ثمة كتلة بشرية ساحقة تقيم بينهم، يمكنها، إذا أرادت، أن تمنعهم من الذهاب إلى أعمالهم، تحاصر باصات أطفالهم المتوجهين إلى مدارسهم، تبقيهم سجناء سياراتهم لساعات طوال، وتشتبك مع الجيش والقوى الأمنية.

تذكرت لوهلة ما قاله لي صحافي سوري مرموق يقيم في لبنان منذ مدة، ماذا لو غضب المليون ونصف مليون سوري في لبنان، وشدوا عصبهم وقرروا القيام بتحرك جماعي، ما بمقدور ثلاثة ملايين لبناني أن يفعلوا؟

مدان بالطبع، الكلام العنصري القميء الذي قيل عن السوريين في اليومين الماضيين، ومدانة أيضا الاعتراضات ذات الطابع السياسي التي طالبت بطرد هؤلاء لأنهم مع النظام، فيما مرحب بهم يوم كان بينهم من يطلق النار على الجيش اللبناني ويرميه بالقنابل ويشتمه على الملأ، فقط لأنه كان معارضا. مشكلة اللبنانيين في تسييسهم حتى لمياه الشرب والتيار الكهربائي وخطوط الهاتف، ونسمة الهواء. مشكلتهم قبولهم بفوضى اللجوء، وتسييس اللاجئ وحتى تحميله السلاح حين يكون معهم، ثم يستوجب الأمر طرده فورا حين يصبح ضدهم. غياب الأفق الفكري للسياسيين اللبنانيين بات معضلة كارثية.

النازح يهرب من بلده بسبب معارك أو خطر على الحياة، بصرف النظر عن موقفه السياسي. التعامل، منذ البدء مع النازحين، على اعتبارهم جميعهم ضد النظام سذاجة وحمق لا يغتفران. تجييشهم واستنفارهم ليحاربوا، في كل مرة، جهة لبنانية ضد أخرى، جهل منهجي يحصد الجميع نتائجه.

ثمة ميل مزمن وعتيق، عند السوريين، للتعامل باستمرار وهم في لبنان، لا على أنهم ضيوف، بل باعتبارهم أهل الدار ويحق لهم أن يستبيحوا حدودا ويرتكبوا تجاوزات، مستقوين بالانشقاقات الداخلية. ما حدث يوم الثلاثاء، قد يكون بروفة قابلة للتكرار، استجرها قصر النظر اللبناني، والسفه السياسي.

استعراض النظام السوري قوته في لبنان عبر النازحين، سواء أكان مدبرا كليا أو جزئيا، ساهم فيه حتما، أولئك الذين لم يروا إلى النزوح مسألة إنسانية يتوجب تنظيمها، بحياد، والتعامل معها بعقلانية واتزان بقدر ما أحبوا توظيفها، واستغلالها واللعب على أوتارها الخطرة.

من سخرية الأقدار، أن التظاهرة الضخمة التي ملأت الشوارع حول السفارة السورية تأييدا للرئيس بشار الأسد فيما قصر بعبدا يعجز اللبنانيون عن الإتيان له برئيس، جاءت بعد بيان هو الأول من نوعه يصدر عن جهة رسمية منذ بدء الثورة السورية. طلب البيان الصادر عن وزارة الداخلية، من السوريين «عدم القيام بأي تجمعات سياسية أو حتى لقاء علني له أبعاد سياسية»، مؤكدا أن التعامل سيكون بحزم مع المخلين.

الطوفان البشري السوري، كان من المحال لجمه أو السيطرة عليه. لا يزال 200 ألف لاجئ يسجل كل يوم في لبنان، الأعداد في تزايد، فيما لا تملك الأمانة العامة لقوى 14 آذار، التي رفضت التعامل بموضوعية مع هذا الملف منذ البداية، سوى المناداة بالترحيل الفوري للمؤيدين للنظام لأن صفة اللجوء لا تنطبق عليهم. وأسوأ من ذلك أن تخرج مظاهرة في باب التبانة، ضدهم، ويعتدى على أحد الذين انتخبوا بالضرب.

للغاضبين من 14 آذار والشامتين من جماعة 8 آذار - هذه القسمة السامة أراحتنا السماء من شرها - ما هكذا تؤكل الكتف! مشكلة اللجوء السوري لا تحل بالانفعال والاستغلال الرخيص، والتراشق العنصري على «فيسبوك». يحتاج الأمر لخطة وطنية، ووقفة واحدة في وجه دول تدعي حقوق الإنسان، تفرض شروطها على هذا الملف الحساس، فيما لا يعنيها غير ربح مهل زمنية ترتاح خلالها من عبء إنساني كبير، لتحقق صفقاتها السياسية وتعيد ترتيب خارطة المنطقة. ولفترة قد تطول جدا، لا يضر أن تغلي العنصرية في عروق الجيران، وتزيد الشقة بين أهل البلد الواحد، وأن تشتعل بعض الصدامات.

اللهو الصغير على أبواب السفارات والاستفزازات المتبادلة، ورمي كل بلد بفتنة تعبث به، وحكايات يسهر على جمر لهيبها، هي من متطلبات المرحلة. لا بد أن استعراض السفارة كان منه جزء مدبر، لكنه من جانب آخر، يؤكد أن نفوذ النظام السوري في لبنان لا يزال حاضرا، وهذا ربما ما سعى لاستعراضه المنظمون، وهذا ما بات على اللبنانيين بمختلف فئاتهم أن يتعاملوا معه بواقعية.

يبقى أن من ذهبوا للاقتراع فعليا، لا يتجاوز عددهم 18 في المائة من النازحين، بعضهم أراد الاقتراع تقية وخوفا، بسبب شائعة سرت كالنار في الهشيم، مفادها بأن من لا ينتخب تسقط عنه حقوقه المدنية. وإذا أضفنا إلى ذلك، أن ثمة إحساسا بأن النظام يربح الأرض تدريجيا، ومداراته ضرورة، نفهم أن تسونامي الانتخاب كان له ما يبرره، دون أن نغفل بطبيعة الحال، أن فئة غاضبة اختارت طوعا أن تنتخب النظام نكاية بمعارضة خيبتها ورمتها في مقتل.

البركان السوري يواصل قذف حممه على لبنان، ومن يريد السلامة عليه أن يتوقف عن التشاطر والعبث بالنار.