التعليم من «الكتاتيب»... إلى ذروة التحديث!

TT

مشكلة التعليم في المنطقة ليست جديدة، فمنذ أن افتتحت مؤسسات التعليم النظامي والمجتمعات تعيش حالا من الارتباك تجاه تلك المؤسسات، ولعل الموقف من التعليم النظامي كان متشابها في كثير من المناطق والمدن على النحو الذي يسرد تاريخيا في كتب مثل: «فتنة القول بتعليم البنات» لعبد الله الوشمي، ذلك أن فكرة التعليم النظامي فكرة ذات طابع استنفاري، صحيح أن معارضة التعليم لم تكن معارضة واعية في بادئ الأمر، لكن الجذور الأساسية التي قادت بعض المجتمعات للوقوف ضد فكرة التعليم النظامي كانت تستند إلى مبررات لها سياقاتها التاريخية، والاجتماعية.

لقد قرئ التعليم النظامي على أنه اجتراء اجتماعي غريب للانشقاق عن نظم «التعليم في المسجد» أو «الكتاتيب»، وهذا ربما ساهم في تصعيد المواقف الاجتماعية آنذاك ضد التعليم، غير أن ذلك الخوف ساهم في رسم تطمينات رئيسة على مستوى صياغة المناهج، أو على مستوى مسار التربية والسلوك.

ذلك التأسيس بقي طويلا خارج مساحات التحرير الإعلامي أو التدوين التاريخي، واستمرت مؤسسات التعليم العربية في زرع التطمينات ومنح الضمانات على حساب مواكبة المستجدات في مجالات التعليم - ليس فقط على المستوى السلوكي والتربوي، وإنما حتى على المستوى العلمي نفسه. لقد أصبح «التعليم» ثابتا لا يمكن المساس به، وذلك بسبب طغيان حالة التوجس من تلك المؤسسات المغلقة، التي تخشى المجتمعات على أفكار أبنائها منها، في بعض البلدان تم تجاوز هذا الهاجس، فأدخل تعليم الفلسفة في الصفوف الأساسية، كما تم إدراج كثير من المواد الفنية والعلمية التي تساعد على إدخال الطالب في إيقاع العصر بكل مستجداته وعواقبه ومصائره.

من أدق المهام الحكومية والاجتماعية الرئيسة في هذه المرحلة، العمل على رسم استراتيجية تقوم على إنهاء الهاجس الرئيس القديم، وذلك عبر تجاوز مرحلة «الطمأنة» إلى مرحلة «التعليم»، على عكس ما نشاهده أحيانا في استراتيجيات التي تركز على الجوانب الضيقة من الأدوات التربوية، وتغرق في مناقشة أمور كان من المفترض أن يتم الانتقال إلى ما بعدها، وهذا هو سر تضخم آثار التعليم السلبية، وتحوله إلى مكان لإنتاج وتكرير الأفكار الثقافية الخاطئة، وآلة لتحويل المجتمع إلى نسخ مريضة مكررة ومتشابهة، تختلف فقط في مستوى تضخم المرض واستفحاله.

كانت لدى النقاد صورة واحدة من النقد هي «المناهج»، التي رأى بعضهم حاجتها إلى الإصلاح والتطوير، لكن هذا الطرح أدى إلى تأخر تطوير تلك المناهج، وذلك لارتباط نقدها بمرحلة مكافحة الإرهاب، الأمر الذي جعل طرح فكرة التصحيح في المناهج متوافقة مع التصعيد الغربي ضد المسلمين! كما يتوهم البعض، ذلك الاحتكاك أجل الطرح الحقيقي الذي يجب أن يشمل مآلات تدوين المناهج بطريقته الحالية، وذلك بسبب صعود وتيرة «التوجس» التي ارتبطت بالتعليم منذ تأسيس أول مدرسة، هذا مع كون المناهج ليست هي التي تشكل الذهنية الأساسية للمتلقي، بل ربما كان الدور البارز للمعلم الذي يتحكم في طرح المعلومة وإدارتها، وتأويلها وشرحها، وإذا كان المدرس جزءا من المجتمع في ثقافته فإن الإشكالية ليست في المناهج بالذات، وإنما في طبقات فكرية صلدة تحتاج إلى كثير من التحرير والتنقيب من أجل الإسهام في نقل التعليم إلى الحقبة التالية، بعد أن بقي طويلا في الحقبة الأولى التي بدأ التعليم بها.

التعليم في السعودية الآن يمر بمرحلة انتقالية، هي من أهم حقب التعليم على مر تاريخه، إذ جاء الدعم الملكي بثمانين مليار ريال، وأعلن الأمير الوزير خالد الفيصل حزمة من المشاريع، تبدأ بتعليم الروضة وتعليم اللغة الإنجليزية في المراحل الابتدائية، وصولا إلى ابتعاث المعلمين. ولعلي أؤكد ضرورة هذه القرارات التي تتجاوز ما عبرت عنه بـ«مراحل التطمين» لنصل إلى مواجهة العصر. ومن أبرز ما يلفت مشروع ابتعاث المعلمين والمعلمات لمدة تصل إلى سنة، لتأهيلهم وصقل تجربتهم عبر اطلاعهم على الأسس التعليمية والمناهج والوسائل التربوية في أنجح مؤسسات التعليم بالعالم.

إنها مرحلة كبرى ضمن معارك كثيرة نخوضها ضد التطرف والرجعية والتخلف وخطابات الموت وثقافات الاستعداد للرحيل.

* كاتب وباحث سعودي