ثقافة التعايش.. تحديات قائمة

TT

تزخر البيئة العربية منذ قديم الأزل بمخزون ضخم من قيم التسامح والتعايش وقبول الآخر، وهناك موروث رائع يحض على التمسك بتلك المبادئ كمكون ديني وثقافي وإنساني.

ولا شك أن الأديان السماوية جاءت لتأصيل القيم الإنسانية تجاه «الآخر» وفق تشريعات وتعاليم لا تقبل التأويل أو التبديل، وفي هذا الصدد، فإن رسالة الدين الإسلامي الحنيف تأمر بالعدل وتنهى عن الظلم، وتُرسي دعائم التعايش وتقر الاختلاف في الأرض، يقول الله تعالى: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ).

ومن المنطقي أن تكون منطقة الشرق الأوسط باعتبارها مهد الأديان وتمازج الثقافات والأجناس المختلفة، بمثابة ملتقى إنساني يدعم احترام الآخر وقبول التعايش معه.. لكن ما يحدث الآن على أرض الواقع يختلف عن أي منطق أو تبرير فقد أدت النزاعات الطائفية والمذهبية في المنطقة إلى حروب طاحنة وقتل على الهوية وانزوت القيم الروحية والإنسانية السامية.. وما يجري في سوريا والعراق وغيرها من دول المنطقة يثبت أن قيم التسامح والوسطية والاعتدال أصبحت فرائض غائبة بدرجة كبيرة عن المشهد العربي.

وقد بُذلت في السنوات الأخيرة جهود لإطلاق حوارات للتقارب والتفاهم بين الأديان والمذاهب، وصولا إلى أرضية مشتركة تحترم الحق في الاختلاف والتعايش الآمن، وفي هذا الصدد استضافت مملكة البحرين مؤخرا مؤتمر «حوار الحضارات والثقافات» تحت شعار «الحضارات في خدمة الإنسانية» استكمالا لرعاية المملكة مؤتمرات مماثلة كالحوار الإسلامي - المسيحي عام 2002. ومنتدى الوسطية 2005، ومنتدى حوار الحضارات 2008 وغيرها.

وأطلق المؤتمر الذي حضره كوكبة متميزة من علماء الدين والمختصين وفي مقدمتهم شيخ الأزهر «إعلان البحرين»، الذي أكد أن الإنسانية هي الأصل المشترك الذي يجمع البشر جميعا على اختلافاتهم، والحوار هو القاعدة والأداة والرافعة التي تحمل مسؤولية ترسيخ وحدة الإنسانية في إطار تنوعها، وبالتالي فإن جميع أشكال خطابات الكراهية هي ممارسات منافية لحقوق الإنسان، وتشجع التعصب والتطرف والإرهاب.

ولم يغفل الإعلان الإشارة إلى خطورة الاستغلال السياسي للأديان والحضارات بالتشجيع على تكريس العقليات الفئوية والعنيفة وغير المتسامحة، ومنطق التصلب والمغالبة وأشكال المحاصصات السياسية بعيدا عن الوسطية، ودعا إلى الاستعانة بالعقد الدولي للتقارب بين الثقافات (2013 – 2022)، وخطة العمل المتعلقة به، الأمر الذي يتوافق مع دعوة عاهل البحرين إلى تبني إعلان عالمي من قبل الأمم المتحدة يتضمن دور الأديان في إرساء السلام والعدالة والحرية و«تحقيق وحدة إنسانية تتخطى حدود الزمان والمكان».. ويتسق كذلك مع مبادرة خادم الحرمين الشريفين للحوار بين أتباع الأديان والثقافات، لإنقاذ العالم من الأخطار التي تتهدد استقرار المجتمعات الإنسانية، جراء استفحال ظاهرة الكراهية والعنصرية والعداء الديني.

لقد كانت النقطة المحورية في الأحاديث والنقاشات التي جرت على هامش المؤتمر، هي مسؤولية الأديان والثقافة في حل المشكلات والأمراض التي انتشرت في البيئة العربية، وأحدثت تمايزات على صعيد الهوية لم تكن معروفة أو مؤثرة حتى وقت قريب، وقد تمت الإشارة إلى الآتي:

أولا: بات الخطاب الديني في بعض دور العبادة أبرز عوامل التحريض على العنف والإقصاء، ونبذ التسامح وكراهية الآخر. وارتبطت هذه الدعوات باستغلال التعددية الداخلية لتفتيت دول المنطقة إلى كيانات ضعيفة، عبر سلسلة من حروب طويلة الأمد، بدلا من أن يكون التنوع عامل قوة ومنعة وإبداع.

ثانيا: يواجه الأمن العربي عموما ومنطقة الخليج خصوصا، تحديات ومخاطر حقيقية تستهدف الأمن الوطني والهوية.. وغني عن البيان أن هناك من يتربص بأمن المنطقة لزعزعة الاستقرار والتحريض على انقسام المجتمع الواحد، وهناك حاجة ملحة لتضافر الجهود المشتركة لحماية تماسك المجتمعات الخليجية.

ثالثا: لم يتم الاستثمار في التعليم بالشكل الكافي حتى الآن، رغم أنه يلعب دورا محوريا في تعزيز ثقافة التسامح عبر مراحل متتالية من التنشئة الاجتماعية، ففي أي مجتمع بشري يمثل جانب التوعية للأجيال الجديدة والنشء البداية السليمة والنواة الحقيقية لاكتساب قيم الحوار والتحضر والتعايش.

رابعا: إن عالمية حوار الحضارات قادرة على إعادة تشكيل البيئات الإقليمية، وتقديم نماذج رائدة، وصولا إلى نشر التسامح وقبول الآخر على أوسع نطاق ممكن، حيث ترى منظمة «اليونيسكو» أن تحاور الثقافات يساعد على تعزيز السلام العالمي عبر تهيئة الظروف لإجراء حوار حقيقي يقوم على احترام مختلف الثقافات والمعتقدات والقيم، واستبعاد الصور النمطية السلبية الناتجة عن تأثيرات العولمة. وبصفة عامة، تطرح مؤتمرات حوار الحضارات والدعوة إلى التسامح ومكافحة العنف والطائفية، تساؤلات مهمة بشأن مدى قدرة مجتمعات المنطقة على التكيف مع التنوع الثقافي والحضاري، وتعدد العقائد والمعتقدات في الوقت الراهن؟ وهل يمكن تحديد ملامح المستقبل لمجتمعاتنا أخلاقيا ومعرفيا وتكنولوجيا، بينما تسيطر على الساحة أفكار التكفير والتعصب والعنصرية؟

لذا من المتوقع أن تظل حالة الصراع وعدم الاستقرار قائمة في عموم منطقة الشرق الأوسط إلى وقت ليس بالقصير، طالما لم تتغير أفكار الإقصاء والتعصب، والأمل يبقى بأن تتمكن دعوات الحوار والتقارب في إيجاد بيئة مناسبة للتعايش وقبول الآخر والتخفيف من أي دعوات للفرقة والكراهية.. لكن الطريق لتحقيق هذه الغاية ما زال شاقا وطويلا.

* كاتب وأكاديمي بحريني