انتخابات سادة بلا منافسة ولا ديون

TT

في الانتخابات، لا يسكن الشيطان في التفاصيل كعادته، بل يستقر في قاع صندوق الاقتراع؛ تزوير، رشى شراء الأصوات، ابتزاز، تحزبات فئوية انتهازية، وكل السلوكيات السلبية التي تفضح تدني مستوى ثقافة العمل الديمقراطي في المحافل الانتخابية، إنما التجربة الانتخابية المصرية الأخيرة بدت مختلفة، كانت مجرياتها مثيرة على نحو كبير وعلى أكثر من جانب. أهمها أن النتيجة كانت محسومة فوق حاجز التسعين في المائة في أذهان الناخبين والمراقبين قبل بدء التصويت. نسبة التسعين عادة عربية معروفة، كون الأحزاب الحاكمة تجذرت بفعل الزمن في كل المؤسسات، ما جعلها تطبخ الفوز المتفوق وتقدمه للرأي العام. هذه المرة الناخبون هم من قدم هذه النسبة للمرشح الفائز، المصريون وغير المصريين كانوا متيقنين أن السيسي سيترأس بأقل مجهود، الحقيقة أنه لم يكن يحتاج لتمديد يوم ثالث، ولا حتى اليوم الثاني، كان اليوم الأول يكفيه ليطير بالكرسي، لأن المصوتين معروفون والممتنعين أيضا معروفون. لم نشهد منافسة حقيقية بين المرشحين المشير عبد الفتاح السيسي واليساري حمدين صباحي، فالفارق بينهما 90 في المائة من الأصوات لصالح السيسي، رغم ذلك بدا المشهد وكأنه حمى انتخابية، والحقيقة لم تكن هناك أي حمى بين الاثنين، بل بين السيسي ونسبة التصويت.

من الطبيعي أن نستذكر انتخابات 2012 التي تقاربت فيها نتيجة المرشحين وقتها الفريق أحمد شفيق والإخواني محمد مرسي بنسبة تصويت 52 في المائة، لدرجة أنه تردد أن واشنطن مارست ضغوطا على المجلس العسكري لإعلان مرسي رئيسا، في الوقت الذي كان فيه الفريق أحمد شفيق متيقنا من حسمه بالفوز. بالنهاية أعلن فوز مرسي بفارق لا يكاد يذكر. كانت المنافسة على أشدها بين الاثنين لأن المصريين انقسموا إلى شطرين؛ النظام القديم بكل مكوناته، وهو بالضخامة الكافية ليحدث فرقا، مع كل الرافضين لحكم الإخوان من النخب المثقفة والمسيحيين الذين لم يكن لهم خيار سوى الفريق شفيق. والإخوان بشعبيتهم الكبيرة ورصيدهم التاريخي، مع تكتلات شباب ثورة يناير (كانون الثاني) انحازوا لمرسي. هؤلاء في مجموعهم هم القاعدة الانتخابية في مصر. من منهم كان مع السيسي في الانتخابات الأخيرة؟ القلة منهم.

مع هذا حظيت الانتخابات بنسبة تصويت 46 في المائة، معظمهم من البسطاء الذين دفعوا ثمن التدهور الاقتصادي الذي أعقب ثورة يناير 2011، وصدموا وهم تحت مظلة مرسي من تردي الأوضاع إلى الأسوأ، وسارت بهم قوارب اليأس إلى ضفاف السيسي، الذي أظهر نفسه في أكثر من مناسبة قبيل الانتخابات بأنه الرجل الجريء الذي وقف ضد المد الإخواني الذي زلزل الأوضاع الأمنية بإطلاقه لضباع الإرهابيين من السجون وتمكينهم من سيناء، وأنهك الاقتصاد. السيسي اختيار مطمئن كذلك، لأنه يحظى بتقدير كبير وثقة لدى الدول العربية الأكبر نفوذا في المنطقة؛ السعودية والإمارات، التي لن تقبل بانهيار الدولة المصرية أو استمرارها داخل هذا الإعصار أكثر من ذلك. المرأة المصرية أيضا كانت حاضرة بقوة، ورقما مؤثرا منذ ثورة يناير، وكان السيسي متيقظا لدورها فمنحها موقعا خاصا في كل تصريحاته الإعلامية أثناء الحملة. وهي بدورها لم تخيب ظنه.

السيسي لم يستجدِ أصوات النظام السابق بتنازلات سلفا، وهم الذين يملكون ترسانة اقتصادية ضخمة، ولديهم مصالحهم التي قد لا تتوافق مع ما تعهد به السيسي للشعب المصري.

بالنسبة للإخوان الغاضبين، وتصريحاتهم في مصر وخارجها حول الانتخابات وتهم التزوير فهي ليست مستغربة، هم خارج الحلبة السياسية اليوم، والأسوأ أنهم خسروا حضورهم الشعبي في قلوب من أيدوهم سابقا حتى ممن لا ينتمون للجماعة، وكان ذلك قبل السيسي حينما أقر الإخوان دستورا لم تتجاوز نسبة التصويت عليه 36 في المائة. كل المظاهرات والهجمات الإعلامية التي تطعن في الانتخابات تبدو سلوكا طبيعيا من الإخوان، فالخاسر عادة لا يكف عن الثرثرة والحركة، في الوقت الذي خضعت فيه هذه الانتخابات إلى رقابة داخلية ودولية غير مسبوقة من منظمات وهيئات وجيهة مصرية وأوروبية. والأكثر مثارا للسخرية التهمة بأن إسرائيل ستسعد بالسيسي لأنها تأمل في مصر ديكتاتورية، لا ديمقراطية كما كانت وقت حكم الإخوان. الحقيقة أن أسعد أيام إسرائيل حينما كان الإخوان في قصر الاتحادية، والدليل على ذلك اتفاق التهدئة الذي رعاه محمد مرسي بين إسرائيل وحماس، وأشادت به أميركا واعتبرته إسرائيل نجاحا لسياساتها العسكرية، حيث تعهدت فيه حماس بلجم الفصائل الفلسطينية كما جاء في النص: «تقوم الفصائل الفلسطينية بوقف كل العمليات (العدائية) من غزة تجاه إسرائيل، بما في ذلك إطلاق الصواريخ والهجمات على خط الحدود». كلمة «عدائية» المذكورة في النص لم تكن لتقبل بها الفصائل الفلسطينية سابقا، لأنهم يتمسكون بتسمية عملياتهم «مقاومة»، ولكنهم هذه المرة قبلوا أن توصف مقاومتهم بالاعتداء، وتعهدوا بوقفها.

السيسي اليوم في كرسي الحكم، ومصر سعيدة، هذا هو المهم. هذه الحقيقة عبء على الرئيس الجديد وليست مكافأة. عليه أن يفي بكل وعوده لناخبيه في ملفات ثقيلة وحساسة، بل حتى لأولئك الذين لم ينتخبوه سواء تقاعسا منهم ليقينهم بفوزه، أو لأنهم ضده على طول الخط.

نعلم أن وعود الانتخابات، كما يقول المثل المصري، «كلام ليل مدهون بزبدة، يطلع عليه النهار يسيح»، معسول ووردي، ككلام الخاطب لخطيبته، إنما هذه المرة على السيسي أن يكون وفيا كما قرأه الناس، إن كانوا هم ظهيره الشعبي كما قال، فهم يرونه جناحهم الذي سيحلق بهم بعيدا عن المآسي.

[email protected]