المالكية ومصير العراق الواحد

TT

لعل تحليل نشوء «ظاهرة المالكي» وفهمها يتيحان لنا فهم الأزمة التي وصل إليها النظامُ السياسي العراقي بعد 11 سنة على سقوط الاستبداد.

لقد أتيحت لرئيس الوزراء، نوري المالكي، فرصة استثنائية لبناء نظام سياسي ينزع التشاحنَ (الدامي، في أحيان كثيرة) بين المكونات العراقية، ويكون أكثر مرونة وكفاءة في عكس شراكة هذه المكونات في مؤسسة السلطة، فبعد معارك «صولة الفرسان»، عام 2008، التي ضرب بها الميليشيات الشيعية، وبعد هزيمة «القاعدة» وإنشاء مجالس الصحوة، التي أسهم بها الأميركيون وفق ما بات يعرف بـ«مشروع بترايوس»، وبعد انتخابات مجالس المحافظات، عام 2009، التي فوَّضته الزعيمَ السياسي الأقوى في العراق، انفتح أفق نادر لسياسات تتغلب على مصادر النزاع الأهلي، إلا أن المالكي، على الأقل منذ أواخر 2009، مضى في الاتجاه المعاكس، واتخذ حزمة سياسات لا تعالج الانقسام السياسي والمجتمعي القائم، بل تعززه بعمق.

وفي الحقيقة، تشكلت «ظاهرةُ المالكي» من مصدرين:

1 - على الرغم من أن المالكي هو أحد الذين كتبوا دستور 2005، الذي تشكل، بناء عليه، النظامُ السياسي الحالي، وهو أحد عناصر النخبة السياسية الشيعية، التي حاولت أن تكيّف النظامَ التعددي، الذي رسم الأميركيون ملامحَه في (قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية) لعام 2004، لصالح نزعة أغلبية شكّلت روح دستور 2005، أحس المالكي بقيود التوافقية حين تولى المسؤولية التنفيذية العليا، ولذلك حاول التغلبَ على هذه القيود من خلال مجموعة من التقنيات، منها بناء مؤسسات رديفة تابعة له، من قبيل هيئة المستشارين، وتعيين مسؤولين تنفيذيين بالوكالة، من دون أن يخضعوا للمحاصصة، ولا إلى موافقة مجلس النواب، الخاضع هو بدوره إلى هذه المحاصصة، فإن المالكي ذهب أبعد بمحاولة السيطرة على سائر المؤسسات السياسية: السيطرة على القضاء، والهيئات المستقلة، وضرب الفصل بين السلطات، ومحاولة تفريغ المؤسسة البرلمانية من دورها التشريعي والرقابي، والسيطرة على الإعلام العام، وعلى القرار الأمني، والدفع بمجموعة من مسوّدات القوانين، التي قادت إلى تغول السلطة التنفيذية، مما وضع البلاد على حافة نظام تسلطي، بالمعنى التقني لمفهوم «التسلطية».

2 - لقد أدى فشل المالكي في استغلال الأفق الذي فتحته أجواءُ 2008 و2009، إلى أن يعود إلى ائتلاف طائفي خاض به انتخابات 2010. والأكثر من ذلك، أنه مضى إلى تأسيس قاعدة حكم ذات أساس طائفي/ حزبي/ مناطقي، وهي القاعدة التي يتشكَّل عليها فريقُه الحاكم. ولذلك، عطَّل المالكي روحَ اتفاقية أربيل، التي تشكَّلت عليها حكومتُه الثانية، ورسمت خريطة طريق لتطوير فكرة الشراكة في الحكم من خلال حزمة من المؤسسات السياسية (مجلس الاتحاد، المجلس الوطني للسياسات العليا، مجلس الخدمة الاتحادي، الشراكة في القرار الأمني، ضمان استقلالية القضاء...).

وفي الحقيقة، كانت أزمة تشكيل الحكومة سنة 2010 مصدرَ الأزمات اللاحقة: أنها أظهرت أن هناك نزعة استئثارية بالسلطة، تستند إلى إطار طائفي، ولا تعبأ بالانتخابات ونتائجها بوصفها أداة سلمية لتداول السلطة، بل تسخِّر مؤسسات الدولة ذات الاستقلالية في مشروعها الاستئثاري.

كانت أزمة تشكيل الحكومة هي واسطة العقد، التي أعقبتها سلسلة من الأزمات السياسية الحادَّة، التي طبعت ولاية المالكي الثانية، من أزمة نائب رئيس الجمهورية طارق الهاشمي، مرورًا بحركة الاحتجاج في المحافظات السنّية منذ أواخر 2012، وصولاً إلى ما بات يُعرف بـ«أزمة الأنبار»، منذ أواخر 2013.

أزمة تشكيل الحكومة هي المنحنى الذي قضى، بالكامل، على الأجواء الإيجابية التي خلَّفتها هزيمةُ تنظيم القاعدة والميليشيات عامي 2008 و2009، ووضعت شكوكًا، لدى العراقيين والمجتمع الدولي على حد سواء، بإمكانية أن تتطور العملية السياسية في العراق إلى صيغة توفر شراكة أكبر في مؤسسة الحكم، وتتقدم - وإن ببطء - نحو الحد الأدنى من مبادئ الديمقراطية، وسيادة القانون، واحترام حقوق الإنسان، والمشاركة الشعبية.

وقد عزز «الربيع العربي» من منهج المالكي في الحكم، فمع التطورات المتسارعة في المنطقة بعد انهيار الأنظمة الاستبدادية فيها، ولا سيما تطورات الوضع في سوريا بعد الثورة، قرأ المالكي الصراعَ الداخلي في العراق بأنه جزء من صراع أوسع، عابر للحدود، وأن الفاعلين السياسيين العراقيين وفرقاء العملية السياسية هم معبِّرون وجزء من محاور عابرة للحدود، وأن على العراق أن يختار أن يكون في أحد المحاور أو الخنادق النامية في المنطقة. وقد اختار المالكي للعراق أن يكون جزءا من الخندق الإيراني، في سياق محيط عربي سنّي متردد، أو غير مرحب، وفي كثير من الأحيان معادٍ لتجربة العراق ما بعد 2003، التي لعب الشيعةُ فيها دورا مركزيا.

وفي الحصيلة، لم يعد أحد من الفرقاء العراقيين يسأل ما إذا كان بالإمكان بقاءُ المالكي لولاية ثالثة، مع تجاوز كل هذه الأزمات، لأن كل الأطراف السياسية فقدت الثقة بالمالكي، بعد تنصله من الوفاء باتفاقية أربيل، ويبدو لهذه الأطراف أنه لم يعد ممكنًا بناءُ هذه الثقة، حتى لو ضغطت إيران في سبيل بقائه لولاية ثالثة، مع «التزامات» بتخفيف سياساته تجاه الأكراد، والسنة، والفرقاء الشيعة، من خلال القبول بتسويات ما (إقرار الأطر القانونية لتوزيع وتقاسم الثروة والعوائد المالية مع إقليم كردستان، دمج أكثر للسنّة بمؤسسة الحكم، توسيع الصلاحيات اللامركزية للمحافظات السنّية...)، أو ما سوى ذلك من وسائل.

بقاء المالكي لم يعد يعني للفرقاء السياسيين سوى شيء واحد؛ بقاء الصيغة الاحتكارية التي أدير بها الحكم في السنوات الماضية، ولا سيما في ولايته الثانية.

ولذلك، ومع شعور المكونات العراقية بأنه لا أمل بتعديل طريقة الحكم المأزومة، سيطلق بقاءُ المالكي الخيارات القصوى لدى هذه المكونات. وقد بات الكثير من الفرقاء العراقيين يتحدثون عن أن بقاء المالكي لولاية ثالثة سيضع البلاد على حافة التفكك: التنظيمات السياسية الكردية، على الرغم من اختلافاتها العميقة، رفعت في الانتخابات النيابية الأخيرة، شعار «الكونفدرالية»، الذي يعني من جهة، أن الأكراد سيمضون إلى اختيار صيغة للعلاقة بالعراق أعلى من الفيدرالية، ومن جهة ثانية، تعني «الكونفدرالية»، في الخطاب السياسي الكردي، إنهاء للعلاقة بالعراق وتلميحا بالانفصال، وهذا كله يأتي في سياق علاقة استثنائية لإقليم كردستان والقادة الأكراد بتركيا، التي يبدو أنها باتت لا تمانع من التفكير بجغرافية سياسية جديدة في المنطقة، تتقبل دولة كردية في إقليم كردستان العراق، ترتبط بها بعلاقة خاصة (أو حتى اتحاد كونفدرالي)، والسنّة يقولون إنهم لن يقبلوا بأن تتجدد سياساتُ المالكي، التي نكلت بهم، وخلطت بين «داعش» والجمهور السني، الأمر الذي سيجعلهم يصرون - في أقل الأحوال - على بناء فيدرالية سنّية، كشكل من أشكال الحل لتوتر علاقتهم ببغداد.

«التفكك» هنا لا يعني تقسيم العراق إلى ثلاث دول، كما هو شائع، وهذا أمر ليس بالسهل، في ظل صراع على تقاسم الأرض والثروة، لن يتيح تقسيما سلميا، كما حدث في تجارب عالمية أخرى، بل أقصد انهيار الدولة: سلطة مركزية تمارَس على جزء محدد من البلاد، تنشط فيه قوى سياسية تعارض توجهات السلطة بشكل جذري، وجزء يعيش انفصالا فعليا عن سلطة المركز سيذهب أبعد بإعلان عملية طويلة لمشروع استقلال، وجزء سينفي شرعية السلطة المركزية بالدخول في صراع مسلح معها. هذا الوضع، الذي هو خليط من حرب أهلية ومشروع انفصال، قد يتم تحت اسم «العراق»، وقد يبقى كذلك لأمد غير معلوم، لكنه - بكل تأكيد - سيضع إمكانية إعادة ترتيب شكل الدولة العراقية، شكلا من أشكال الحل، حاضرا وقائما دائما، بل قريبا بالأحرى.

* أكاديمي وباحث سياسي عراقي